لم تكن الطائفية السياسية فى العراق منهجاً على مستوى المؤسسة الحاكمة كما هو حاصل حالياً، وذلك رغم كل ما حملته الأنظمة السابقة من ممارسات استبداد سياسى لعقود طويلة، وبقيت الطائفية فى العراق بعيدة عن المسرح السياسى والاجتماعى، ولم تتحول إلى ثقافة فى سلوك المجتمع العراقى، كما هى عليه اليوم، والذى تحولت فيه الطائفية إلى أزمة سياسية واجتماعية ونفسية شاخصة فى حياة هذا المجتمع، ورغم كل ما قيل ويقال من انفتاح سياسى وديمقراطى فى العراق؛ إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور هذه الأزمة، بل إن العملية السياسية الجارية برمّتها قد كرست هذه الأزمة وتعمل بعض القيادات العراقية على الاستفادة منها لأغراض شخصية، فالمجتمع العراقى عُرف عنه فى الماضى أنه كلما ازداد فقراً أو تعرض لعدوان خارجى أو لحق به أذى من سياسة الأنظمة، ازداد قرباً من بعضه البعض، متجاوزاً العُقد الطائفية والقومية، والتاريخ شاهد على تلك المواقف المشرقة فى حياة المجتمع العراقى ومَن يقرأ التاريخ العراقى يعرف ذلك جيداً، ولو أردنا أن نأخذ ببعض الشواهد فيمكننا النظر إلى ثورة العشرين كأحد الحالات القريبة التى ما يزال أثرها يتفاعل فى النفوس، حيث كان العراق نموذجاً للوَحدة الوطنية والروح الجهادية التى توحَّد فيها السنة والشيعة والعرب والكُرْد وسائر المذاهب والقوميات فى وجه الاحتلال البريطانى، وكيف وقف الشيعة خلف الملك السنى محاطاً بمحبتهم ومحاطاً بمراجع الدين الشيعة أو أكثر من هذا، يضاف إلى ذلك أن الحروب العثمانية الصفوية التى دارت بعض رَحاها على أرض العراق باسم السنة تارة، وتارة أخرى باسم الشيعة لم يكن المجتمع العراقى سبباً فيها، بل كان ضحيتها، وكثيراً ما نقل لنا التاريخ صوراً مشرقة من التلاحم الأخوى بين السنة والشيعة أثناء تلك الحروب، حيث كثيراً ما قرأنا عن الحالات التى احتمى فيها الشيعة بإخوانهم السنة أثناء الهجوم العثمانى على الشيعة، أو العكس عندما هاجم الصفويون السنة فى العراق، وكانت بغداد أكثر المدن العراقية شاهداً على هذه الصور المعبرة عن روح التلاحم الوطنى النابذ لتلك الحروب المقيتة، وكان استخدام الطائفية ولا يزال من أبشع أساليب عمل الأنظمة السياسية، وقد شكلت هذه السياسة أحد أهم مرتكزات المعارضة العراقية السابقة التى كانت تدعَّم من قِبَل إيران ضد الأنظمة العراقية، والتى تدعم حالياً ضد الأنظمة الخليجية والعربية الأخرى، وهو ما جلب لهذه المعارضة نوعاً من التأييد والتعاطف من قبل البسطاء الذين تحركهم البيانات العاطفية، وتؤثر فيهم الخُطب الطائفية. وحتى بعض العراقيين السنة أيضاً وباقى القوميات والديانات العراقية الأخرى قد تأثرت بالخطاب الطائفى نوعاً ما، وهذا الأسلوب السياسى فى منهج السياسيين العراقيين وبعض الحركات العراقية عامة قد أعطى الدولة الإيرانية الذريعة للتدخل الدائم فى الشؤون العراقية عامة والشيعة خاصة، مستغلة الخطاب الطائفى عند الحركات الشيعية لتحقيق أهدافها فى الصراع الحضارى والسياسى التاريخى القائم بينها وبين الدول العربية عامة والعراق خاصة. وهناك عدة عوامل أخرى قد هيأت لإيران التدخل فى الشأن الشيعى العراقى والشيعى عامة، منها وجود زعامات شيعية من أصول إيرانية لعبت دور الطابور الخامس. ثانياً: وجود شيعة عرب يبحثون عن زعامات، خصوصاً فى دائرة الحوزة العلمية؛ حيث وجد كثير من العلماء العرب أنه لا يمكنهم الوصول إلى المرجعية إلا بالتحالف مع الدولة الإيرانية، وإن كان ذلك على حساب أوطانهم ومصلحة الشيعة عامة. ثالثاً: وجود شريحة شيعية تحس أنها مظلومة أو مهمَّشة فى وطنها، لكنها غير مدركة لمعنى الظلم الأجنبى، وهذه الشريحة وإن اتصفت بالوطنية أحياناً إلا أنها تفتقد وللأسف الشديد للوعى السياسى الذى يمكن أن ينقذها من حبال الألاعيب الإيرانية الخبيثة، ورغم أن هناك العديد من أبناء هذه الشريحة قد أدركوا متأخرين هذه الألاعيب؛ إلا أن العديد منهم ما يزال يعيش غيبوبة الشعارات العاطفية التى زرعها الإعلام الإيرانى من جانب، وجسدتها الممارسات الطائفية للحركات السياسية من جانب آخر. لقد حاز مطلب الحركات الشيعية العراقية السابقة التى كانت تتهم النظام السابق فى العراق آنذاك، تعاطفاً عربياً وعالمياً واسعاً فى حينه، لكنها وبعد أن وصلت للسلطة فقدت هذا التعاطف والمشروعية، حيث تساوت فى نهجها الطائفى مع كل مَن كانت تتهمهم بالممارسة الطائفية، ولم يعد لها حجة فى ذلك بعد أن ثبتت الطائفية كثقافة متجذرة فى سلوكها السياسى. وما يشهده العراق اليوم لن تسلم منه باقى القوى السياسية الشيعية فى المنطقة، وأن العزف على وتر الطائفية فى سبيل تحصيل بعض المكاسب السياسية، وفى حال استمرار هذا النهج، قد يُشعل حروباً داخلية تبلغ ضحاياها أكثر من ضحايا الحروب العثمانية الصفوية التى دارت رحاها على ارض العراق، وما شهده العراق بعد الاحتلال الأمريكى، وقد يعيد التاريخ نفسه من جديد، خصوصاً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار التكالب الإيرانى الغربى على المنطقة، بقى على المعارضة الشيعية الخليجية والعربية عامة، التى ترى فى نفسها أنها حريصة على مصالح أوطانها وطائفتها، أن تعى مسؤولياتها فى هذه المرحلة الحساسة، وأن تحافظ على وَحدة الصف الوطنى، وتنأى بنفسها عن المصالح الإيرانية والغربية التى لا تميز بين سنة وشيعة أو عرب وغيرهم من أبناء المنطقة.