الوطن لمن؟، وما هو توصيف وتعريف الوطنية؟. الوطن لجميع أبنائه بلا استثناء، لا يمكن نزع الشخص من وطنه، ولا نزع الوطن من أولاده، الاثنان بمثابة الظفر من اللحم، أو القلب من الجسد، والوطن لمن يحبونه من غير أبنائه أيضاً، هناك أوطان تمنح جنسيتها محبة لأشخاص لم يطلبوها، لأنهم يحبون تراب تلك الأوطان، المطرب الراحل وديع الصافي كانت لديه الجنسية المصرية، فهو صاحب الأغنية الجميلة "عظيمة يا مصر يا أرض النعم"، أذكر أنه في دولة عربية تعطلت إشارة مرور فجأة، وحدثت أزمة سير خانقة، وقد تطوّع شخصان من نفسيهما ونزلا من سيارتيهما وساهما في فك الأزمة، ولقاء ذلك تم تكريمهما من أعلى سلطة في الدولة، وأحدهما كان يرغب في الجنسية، فتم منحها له على عمل بسيط، لكنْ مغزاه كبير. والوطنية هي سمة الارتباط بالوطن، عنوان العشق الأبدي له، أبرز علامات الانتماء والولاء، علاقة لا تنفصم، جوهر أصيل لا يتقادم ولا يخفت، مثل الذهب يزداد تألقاً ولمعاناً مع مرور الأيام. لا يجوز احتكار الوطن ولا الوطنية من أحد مهما كان، صكوك الامتلاك هنا ليست من حقّ بشر مهما علا شأنُه أو منصبُه أو خدماتُه، ميزان الوطن والوطنية يستحيل أن يمسكه شخص ليتحكم فيه، يزيد لهذا، وينقص من ذاك، هو ميزان بلا مكاييل، ميزان يحدّد كل مواطن بنفسه مدى قدر الوطنية وثقلها في قلبه بما يقدّمه لبلده، ولا تفضيل لأحد على الآخر، لأنّ الميزان هنا نسبي، من يهتف مؤيداً، أو من يهتف معارضاً. الوطن، ليس النظام الحاكم، لا اختلاف مع الوطن، لكن الاختلاف مع النظام مشروع، النظام لا يحدد من هو الوطني، ومن هو غير ذلك، لا يجوز، لأنه سيضع أنصاره في أعلى عليين، وسيخسف بمعارضيه في أسفل سافلين، الوطن ثابت، النظام متغير، الوطن محصن، النظام قابل للمحاسبة، الاختلاف مع الحاكم لا يعني فقدان الوطنية، ولا السعي لتدمير الوطن، والحاكم يجب ألا يخرج مخالفيه من خانة الوطنية، ولا ينزع صفة المواطنة عنهم. كلما تقدم المجتمع وكان أكثر وعياً وثقافة وعلماً وتعليماً وانفتاحاً سياسياً فلن تجد التخوين رائجاً، ولن تجد محاكم الوطنية مزدهرة، ولن تعثر على إعلام جانب من وظيفته كيل اتهامات التخوين والعمالة والتآمر لمن لا يهتفون لشعاره، ولا يتبنون خياره، ولا يعتمدون رأيه، ولا يسيرون وراءه. في ظل التخلف تجد كل ما هو متخلف وضد الفطرة الإنسانية وضد العقل والمنطق نشطاً وفعالاً ومتسيداً، تجد الوطن نفسه مقروناً باسم حاكمه، يتصرف فيه كما يشاء، ويمنح من يشاء صك الوطنية الكاذب، ويمنعه عمن يشاء، فكر التخلف، فقر الفكر، استبداد مع استعباد، فرعونية الامتلاك والاحتكار والاستعلاء، هؤلاء يتسببون في تدمير الأوطان. كل مواطن له حقّ ونصيب مفروض في وطنه، اغتصاب هذا الحق هو من يجعل منسوب الوطنية يتجه للانخفاض، لكنه لا ينضب أبداً، من هنا تكون العدالة هي قدس أقداس الحفاظ على بنيان الأوطان شامخاً، وتكون الحرية والمساواة والحقوق قواعد لهذا البنيان. منذ تفتح الوعي، وهتفت في طابور الصباح بالمدرسة الابتدائية القديمة تحيا مصر، لم أسمع نقاشاً بشأن الوطن ولا استدعاء للمفردة ذاتها، لأن الوطن أمر بديهي وليس بحاجة للجدل، كما لم يكن هناك استدعاء لوصف ومعنى الوطنية، لأننا جميعاً وطنيون شرفاء أخيار، لا فضل لأحد على أحد في تلك القيمة السامية، ثوابت منتهية، لا مجال لطرحها للحديث في تجمع خاص أو عام. ماذا حدث بعد ثورة 25 يناير؟، من الذي يتفنن في إطلاق غرائز قبيحة من مكامنها، ويحيي نعرات، ويثير فتناً، سوداء مدمرة؟. لم يكن ما قبل يناير نموذجياً، لذلك قامت الثورة عليه، ما بعد يناير كان يُفترض أن يكون الأفضل والأنقى، لكن ماذا جرى ولا يزال يجري حيث يتم قتل كل ما هو جميل وبعث كل ما هو دميم؟. حالة من الكراهية بين الناس، وانقسام في المجتمع، ومحاولات لتأميم الوطن واحتكار الوطنية، هذه لعنة، ذلك فعل خبيث، هذه هي المؤامرة الحقيقية على شعب يتم ضربه ببعضه البعض، هناك من يريدون ذلك لمصالح ضيقة لن تتحقق إلا في حالة الفرقة والاختلاف والانقسام. ماذا يعني أن يموت والد أبو تريكة ولا يستطيع العودة إلى وطنه لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه، وتلقي العزاء فيه، ومن هو أبو تريكة، هل هو بحاجة لشهادة وطنية؟، تلك كارثة والله؟. ولأنه نجم شهير وكبير فالإعلام يهتم بأمره في كل صغيرة وكبيرة تتعلق به، لكنْ هناك آخرون كثيرون يفقدون أحبة وأعزة لديهم ولا يستطيعون العودة إلى وطنهم، قراهم ، مدنهم، شوارعهم أماكن لعبهم ولهوهم، أماكن ذكرياتهم، حيث لا يضمنون العواقب. هذا جديد، باستثناء فترة في المرحلة الناصرية، وفترة في نهاية عهد السادات بعد كامب ديفيد، وكان عددهم محدوداً، لم يكن هناك مغادرون قسراً، قلقين من العودة في عهد مبارك، باستثناء بعض دعاة تطرف، لكن اليوم اتسع هذا الأمر كثيراً، أقرأ على وسائل التواصل ولأول مرة تمنيات حارة من شباب وفتيات بحلم الهرب من الوطن، كيف يستقيم هذا الأمر؟، إنها مأساة أن يكون الهرب حلماً، وأن تكون العودة لمن خرج حلماً صار مستحيلاً أو صعباً. قلنا إن الخلاف مع نظام لا يعني الخلاف مع وطن، وأن معارضة نظام لا تعني الحرمان من الوطن، والقانون هنا يجب أن يكون شفافاً ونزيهاً ومستقلاً وعادلاً، حنبلياً بالمعنى المجازي، لأنه يرتبط بعلاقة دم بالوطن لا يجوز تكييفها بأي شكل لجعل العودة خوفاً وقلقاً من مصير غامض. أدعو إلى موقف رسمي حان وقته، بل تأخر كثيراً، بأن الوطن لجميع أبنائه في الخارج، كما في الداخل، لا قيد ولا شرط ولا تذلل كما حصل مع إعلامي مريض أراد الرجوع ليدفن في تراب بلده. من لم يحرض على عنف، أو يمارس العنف فقط، وبتوصيف نزيه وأمين، وليس بتكييف مطاط وفضفاض، فليعد سالماً، ادخلوها آمنين. مصر للمصريين جميعاً، لا منحة، ولا منّة من أحد لأحد.