"أوف ذا نيم أوف الله .. بسم الله الرحمن الرحيم .. هيلو إفري بادي.. أهلأ بيكو جميعًا.. ماى نيم إذ زيزو .. أنا أسمى زيزو". بدأت الأنظار تتعلق حول هذا المختل الذي يرطم بالإنجليزية مترجمًا كلماته كأنه ينقل كلمه للرئيس الأمريكي على الهواء، بأناقته وملابسه المهندمة وعطره الذي يفوح منه وساعة يده الأنيقة، هو أرقى بكثير من ركاب الأتوبيس أنفسهم.. كل التوقعات تشير إلى أن يكون هذا الرجل متسولاً قد خابت وقتلت نفسها تلقائيًا.. "ليدز آند جنتل مان .. السيدات والسادة.. باي جادز ويل.. بمشيئة الله.. آي هاف ابيوتفل سربرايز هير وذ مي.. أنا معايا هدية جميلة أوى ليكو ..". بدأ انتباه الناس يزداد لصمتهم، الذي طغى على المكان، فمن كان يقرأ جريدة طواها بيده، ومن كان يسمع موسيقي خلع سماعته، ومن كان يتكلم فى تليفونه أغلق المكالمة، الكل أصبح شغوفًا بمتابعة هذا الشخص غريب الأطوار!، بينما بدأت أيدي الرجل تتسحب حول حقيبته. "آند ناو ويذ ذا سير برايز .. والآن مع المفاجأة!!".. كان الأتوبيس يتحرك بأقصى سرعته بينما ينتاب الركاب القلق والريبة، حول ما يخفيه الرجل بحقيبته السوداء، رأيت أحدهم يضع يده على قلبه تحسبًا لو فجر الرجل نفسه، وإحداهن هرعت لآخر العربة تحسبًا لخروج ثعبان أو شيء ما مخيف، كان الرجل الغامض يراقب المشهد عن كثب ويستمتع بخوف الناس ويستلذ برعبهم بطريقة سادية وغريبة لدرجة أنه كان يتعمد أن يبطئ حركته فى أخراج ما فى حقيبته تمامًا لإضافة المزيد من الإثارة والسسبنس، وفى عز التوتر الذي ينساب بلا حساب أخرج الرجل عسلية صغيرة من حقيبته صارخًا: المفاجأة أهيه .. عسلية بجنيه.. وهنا أصيب الركاب بحالة غير طبيعية وغير مبررة من الضحك والتصفيق، وأخرج كل منهم لا إردايًا ما تيسر من فكة لشراء العسلية الغامضة من صاحبها الأكثر غموضًا.
بعدما حصد الرجل غنيمته من الجنيهات المعدنية، التي أمطرت عليه من حيث لا يدري، جلس بجواري يسرق لحظات من الراحة، مستمرًا فى رد التحية الموجهة إليه كفنان انتهى لتوه من الفصل الثالث لمسرحيته المرهقة، لا أتذكر من فينا بدأ بالحديث، لكنه بدأ على أى حال، اسمه زيزو عسلية، واسمه الحقيقي عبد العزيز قطب، "على فكرة أنا مهندس" هكذا قذفها بوجهي دون مقدمات، ثم ابتسم وهى يحكي من البداية ويخفف أثر الصدمة: "أنا خلصت ثانوية عامة ودخلت بعدها معهد فنى صناعي وبعدها دخلت كلية هندسة حلوان بس حصل لى مشاكل كتير فى الدراسة وسبتها وأنا ف سنة تانية". كانت التفاصيل التي حكاها بقدر أهميتها، بقدر ما زادت من تعقيد الصورة أكثر.. قائلاً: "وأنا فى الكلية كنت بتدرب في شركة سيما .. بتاعة الحلويات دي أكيد توعى عليها. وتابع المهم أن فيه مهندس هناك كان بيحبنى لله ف لله كده ..أدانى شوية عسلية وحلويات وقالي أعملك فرشة عند موقف الأتوبيسات لقط رزقك هناك.. وحصل، عملت فرشة حلويات بسيطة كده فى موقف العباسية بس المشكلة أنى ما بعتش ولا حتى بربع جنيه، ولما لقيت الناس ماجوليش قررت أروحلهم أنا، وفكرت فى دخلة جديدة ادخل بيها.. وقررت استخدم الإنجليزي بتاعي واعمل الشو اللى أنتي شفتيه ده.. وربنا كرمني من وسع .. أتجوزت وبنتى الكبيرة دلوقتي مهندسة كمبيوتر والتانية فى كلية آداب وابنى الصغير فى كلية زراعة". وقتها اندهشت جدًا عندما علمت أن زيزو يمارس نفس ذلك المشهد منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا بلا توقف لدرجة أن أصبح له صفحات على الفيس بوك وفيديوهات على اليوتيوب ومعجبين يودون التقاط الصور معه ليصبح أشهر بائع عسلية بالإنجليزية فى مصر! . لا أعرف كيف ستنظر لقصة هذا الرجل؟، لكنى لا أراها إلا أن هذا الرجل البسيط فهم قواعد لعبة الحياة جيدًا، وأدرك أن تفكيره خارج الصندوق سيجعله بائعًا خارج الصندوق، وأن شوية تعب صغنططين زيادة فوق تعبه الأصلي، سيصنع له نجاحًا كبيرًا فوق نجاحه الأصلي. كنت أسال نفسي بعد أن غادر زيزو الأتوبيس، "كيف أخرج كل هؤلاء الركاب ما في جيوبهم تحية لهذا الرجل وأنا أولهم وهم الذين طالما تجاهلوا الباعة الجائلين ببضاعتهم، والإجابة أنهم قدروا ما فعله هذا الرجل من مجهود فى ابتكار طريقة جديدة ومختلفة لتسويق منتج قديم ومستهلك، فلم تكن حصيلة الرجل من كل تلك الأموال سوى اعترافًا منهم بأنه برافو عليك أنت شاطر وفكرت وتعبت وإحنا كافئناك. وفي آخر حديث زيزو "قام بتوجه رسالة لجميع الشباب العاطل ودرسًا للحياة، يخبرك بأن الحياة عمومًا لا تحتاج منك المزيد من المنتجات والكتب والأغانى والإشعار مهما كنت جامد قوى، الحياة تحتاج تفكير وابتكار لتوصيل بضاعتك حتى لو كانت ردئية مثل تلك العسلية اللى ادبست فيها"