خلال حديث "تليفوني" مع الإعلامية القديرة "نهال كمال"، علمت أن جامعة "الأوتونوفا" الأسبانية تدرس لطلابها شعر الراحل الكبير "عبد الرحمن الأبنودي"، ولهذا أرسلت رسالة للسيد وزير الثقافة "حلمي النمنم"، تحثه فيها على مخاطبة وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي، وغيرهما من الجهات المختصة بوضع وتطوير المناهج التعليمية، لاتخاذ ما يلزم نحو تدريس شعر الراحل الكبير لطلاب أقسام اللغة العربية بالجامعات المصرية، وتدريس كتاباته النثرية ضمن موضوعات القراءة المقررة على طلاب المدارس المصرية. ولأننا نعلم الكثير عن سطوة "البيروقراطية" المصرية، وتفننها في قتل ودفن الكثير من المقترحات والمشروعات المفيدة والحيوية، اللازمة لتطوير البلاد وتقدمها. لذلك كان لزامًا علينا، أن نضع أمام السيد الوزير وغيره من السادة المسئولين والرأي العام، مخاوفنا من ألاعيب وخبرة "البيروقراطية" السادية، لوأد مثل هذا الاقتراح المستنير، وحبسه في الأدراج، بالتعلل ببعض الحجج والأسباب الواهية والمغلوطة التي عفا عليها الزمن، بغرض التقليل من قيمته علميًا وفكريًا، والحط من جدواه المعرفية والنقدية وتأثيره الإيجابي على عقول شبابنا، حال تدريسه لهم بالمدارس والجامعات المصرية، وهو ما سوف نشير إليه في النقاط التالية: ** قد يظن البعض أن اقتراح "نهال كمال" وتحمس وزير الثقافة له، هو تكريم شخصي منهما "للخال"، بينما - الحقيقة - هو مطلب مجتمعي، تنادى به الكثير من المثقفين ومحبي "الأبنودي" وهم بالملايين داخل وخارج مصر، تكريمًا له على مسيرته الشاقة ونحته في الصخر بلا كلل، حتى أضحى "الخال" ظاهرة شعرية وأدبية متفردة اعترف بها الجميع حتى الذين اختلفوا معه سياسيًا وفكريًا. ** إن الدولة المصرية - وبموافقة المجلس الأعلى للثقافة – سبق وأن منحت "الخال" عام 2001 جائزة الدولة التقديرية في الشعر العامي، وهو ما اعتبره "الأبنودي" اعترافًا من الدولة بشعر العامية المصرية. ** بكل أسف ودهشة نقرر: أن أقسام اللغة العربية بالجامعات المصرية، مازالت تقف موقفًا غير مبرر حتى تاريخه، وتمتنع عن تدريس شعر العامية المصرية لطلابها، كما فعلت مع الشعر الحديث، حين ظهر على الساحة الأدبية بلبنان والعراق في أربعينيات القرن الماضي، بدعوى مخالفته لقواعد نظم الشعر العمودي؛ مما تسبب في تخلف مصر عن ريادة هذا الرافد الشعري الجديد، وخفوت صوته بمصر لسنين طوال، لقلة عدد من أنجبتهم من شعراء هذا الوافد الشعري الجديد، وفى النهاية وبعد ضياع الوقت وخراب "مالطا"، تراجعت الجامعات المصرية عن هذا الموقف السلفي – الشعري لا الديني – وأجازت تدريس الشعر الحديث لطلابها والسماح لهم بتسجيل أطروحات الدكتوراه والماجستير وإجراء الأبحاث الأكاديمية بشأنه. ** هكذا أضاعت المدارس والجامعات المصرية بالأمس، ريادة مصر للشعر الحديث على نحو ما أوضحناه في الفقرة السابقة. ** وبعد بزوغ فجر شعر العامية المصرية، مطلع ستينيات القرن الماضي واستمراره وتطوره حتى فرض نفسه بامتياز - مدرسة جديدة للشعر - على الساحة الأدبية المصرية، بجهود إبداعية، مضنية وشاقة من "الأبنودي" ورفاقه المؤسسين. لكن الجامعات المصرية - للأسف - مازالت متمسكة بعدم تدريس شعر العامية لطلابها بكليات الآداب والتربية، وكأنها تستكثر على مصر الاعتراف بريادتها لشعر العامية المصرية بالمنطقة، والذي جرى في نهر الشعر بقوة اندفاع يحسد عليها، ولأول مرة في تاريخ مصر مع الشعر منذ أن نطقت بالعربية، وهي الريادة الشعرية الوحيدة التي حققتها منذ أن وفد عليها الشعر العربي. تفسير ما تقدم أن الجامعات المصرية بغرور غير مبرر ممن بيدهم القرار، أو بتكلس أصاب مناهجها، توهمت أن بيدها صك الريادة الشعرية تمنحه أو تحجبه متى تشاء، وتناست أن مصر تنبت كل يوم شاعرًا للعامية المصرية، وأصبح للشعر العامي في مصر مدرسة، راسخة، ومتميزة، ومتمكنة من فنها الشعري، وأنها فرضت نفسها على إقليمها العربي، واعترفت بإنسانيته وجديده، المراكز العلمية المتخصصة والمتحضرة في الغرب والشرق على السواء، بعكس حالة مصر مع الشعر الحديث في مطلع الأربعينيات من القرن العشرين. ** من الغرائب المضحكة، أن الجامعات المصرية قد دأبت على دعوة كبار شعراء العامية المصرية، لندوات أدبية وأمسيات شعرية، تعقد بالحرم الجامعي، بينما تحرم ذات الجامعات تدريس الشعر العامي، وإبداعات شعرائه النثرية لطلابها، وكأن جامعات مصر تعاني من "شيزوفرنيا علمية" تفوق في غرابتها دراما مسرح العبث. ** شباب مصر وهو يعايش عصر العولمة والتشكيك في الهوية بحاجة ماسة للاقتداء بنماذج مصرية مشرفة مثل "الأبنودي"، الذي تمثلت في أعماله كل خصائص البيئة المصرية، وكل قيم ومقومات الشخصية المصرية، وهو ما نطالعه ونراه رأي العين في رائعته "أيامي الحلوة"، التي قال عنها الروائي العالمي نجيب محفوظ "هي قصائد نثرية، في شكل حكايات توفر المتعة والبهجة، في ظاهرها "فولكلور" مصري أصيل، وفي باطنها نفحات إنسانية"... لكن وزارة التربية والتعليم هى الأخرى – أيضًا - مازالت تلتفت عنها برغم كتابتها بالفصحى. وبعد.. لم يبقَ لدينا بعد إلقائنا الضوء على مقترح تدريس شعر ونثر "الخال" سوى توجيه تحية من القلب للزوجة المحبة "للأبنودي" والإعلامية القديرة، على إلقائها حجرًا في بركة التعليم الراكدة والأسنة، ودعاء نتضرع به للعلي القدير، أن يخلف ظننا وتتحمس وزارتا التربية والتعليم والتعليم العالي، لتنفيذ اقتراحها العصري، بتدريس إبداعات عاشق النيل وتراب الوطن "عبد الرحمن الأبنودي" لطلاب المدارس والجامعات المصرية، اقتداءً من جامعاتنا بجامعات أسبانيا، حتى لا نردد المثل الشعبي "مطرب الحي لا يطرب".