لا أظنها كانت مصادفة أو رغبة بريئة في الانتظار أن تمتنع كبريات صحف الولاياتالمتحدة وبريطانيا عن التعبير عن رأيها في مهازل الانتخابات التي جرت مؤخرا في مصر. كان واضحا أن هناك إرتباكا شديدا في أوساط هذه الصحف شل قدرتها على إتخاذ موقف واضح من الإخوان المسلمين الذين شكل فوزهم غير المتوقع في الانتخابات ، معضلة لدى العديد من دوائر الفكر وصنع القرار في عواصم الغرب. فالاستنتاج الذي توصلت إليه من الطريقة التي تعاملت بها الصحافتان الانجليزية والأمريكية مع الانتخابات المصرية هو أن غالبية هذه الصحف غير مستريحة من فوز الإخوان الكبير نسبيا ، ولهذا كان سكوتها على الجرائم التي إرتكبتها حكومة حزب مبارك من بلطجة إلى رشاوى إلى غلق لجان إلى تزويرنتائج إلى قتل بالذخيرة الحية. بالطبع نشرت جميع هذه الصحف تقارير مراسليها عن أحداث الانتخابات ، والتي ذكرت تفاصيل جرائم مسئولي حزب مبارك التي نعلمها جميعا. وفي هذا الصدد أثبتت هذه الصحف أنها أكثر نزاهة وحرفية من صحافة مصر "القومية" التي تحولت إلى نشرات نفاق حكومية تمارس الكذب والتدليس. ما أقصده بالسكوت هو غياب التعليق على الأحداث من خلال افتتاحيات أو مقالات الرأي. فباستثناء إفتتاحية الفاينانشال تايمز الإنجليزية ("مكاسب مصر الإسلامية" 9/12) وافتتاحية الواشنطن بوست الأمريكية ("إنتخابات مصر القبيحة" 10/12) ، لم تنشر أي صحيفة أخرى رأيها في الأحداث الجسام التي جرت في مصر إبان الانتخابات. وباستثناء مقال جاكسون ديل في الواشنطن بوست ("مبارك يتفوق على نفسه" 5/12) ومقال جون ألترمان في الهيرالد تريبيون ("الإسلاميون يتقدمون" 15/12) ، لم يدل كتاب آخرون برأي فيما جرى. حتى النيويورك تايمز، الصحيفة الليبرالية المناهضة للحرب على العراق والمعادية لإدارة بوش والمعارضة لقانون "الوطنية" وما يفرضه من قيود على الحريات المدنية في الولاياتالمتحدة.. هذه الصحيفة المعروفة بخطها الليبرالي المتحرر في تأييد الحريات وحقوق الإنسان لم تنشر إفتتاحية واحدة أو مقال رأي واحد للتعليق على ما جرى في الانتخابات المصرية. والمؤكد أن مصر ليست دولة هامشية في المنطقة حتى يتجاهل كتاب النيويورك تايمز المخضرمون ما إرتكبته حكومتها من جرائم إنتخابية. حتى توماس فريدمان المتخصص في الكتابة عن العالم العربي لم يكتب مقالا واحدا عن مصر منذ بدء الانتخابات حتى اليوم. هذا الأمر يصعب تفسيره بدون أخذ الموقف الأمريكي والأوربي من (حماس) في الاعتبار. فقد كانت عواصم الغرب تهاجم حماس على خلفية مقاومتها لمنكر الاحتلال باليد ، وتدعو إلى وقف المقاومة (الإرهاب) والانخراط بدلا من ذلك في العملية السياسية كفصيل معارض للسلطة يمكنه مقاومة منكر الاحتلال باللسان. وعندما فعلت حماس ذلك ، يقال لها الآن أن حتى مقاومة المنكر باللسان ممنوعة وأن على السلطة إستئصالها من العملية السياسية وحظرها طالما أنها لا تقر بحق إسرائيل في الوجود. وإذا حدث وأقرت حماس بحق إسرائيل في أي جزء من أرض فلسطين ، فالخطوة القادمة في ضغوط الغرب ستكون في إتجاه حظر مقاومة المنكر بالقلب (الذي هو أضعف الإيمان) ، أي فرض حب إسرائيل واحتلالها على الشعب الفلسطيني. والمعروف أن حماس هي أصلا جماعة (الإخوان المسلمون) في فلسطين. والمعروف أيضا أن حماس والإخوان (في فلسطين ومصر والعالم أجمع) يرفضون الإقرار بحق الصهاينة في شبر واحد من أرض فلسطين التاريخية. والمعروف أخيرا أن إسرائيل ووجودها وأمنها هي بالنسبة لأميركا وأوربا بمثابة مقدسات يهون في سبيلها ليس فقط أرواح وأموال الأمريكيين والأوربيين ، بل وأيضا مقدسات المسيحيين ، حتى أن عاصمة غربية واحدة لم تحتج بكلمة على ما قامت به إسرائيل ضد كنيسة المهد منذ عامين. إن النيويورك تايمز، الأقرب إلى توجهات الحزب الديمقراطي المعتدل نسبيا ، مع كل تحررها وتأييدها للحريات ، هي من أقوى صحف أميركا تأييدا لإسرائيل. ولكنه تأييد يختلف عن تأييد صحف أخرى متطرفة صهيونيا مثل الواشنطن تايمز. ولذا عندما يتعلق الأمر بصورة إسرائيل الأخلاقية ، تلتزم النيويورك تايمز موقفا واضحا لا مجال فيه للارتباك ، كما جاء في إفتتاحية 22/12 عن موقف إسرائيل من خوض حماس الإنتخابات التشريعية الفلسطينية. تقول الإفتتاحية " لقد سمحت إسرائيل لفلسطينييالقدسالشرقية بالتصويت في إنتخابات السلطة عام 1996 وسمحت لهم بالتصويت في انتخابات الرئاسة التي فاز بها محمود عباس في بداية هذا العام. ولا يحق لإسرائيل الآن إنتزاع هذا الحق لمجرد أنه خائفة من فوز طرف معين. إن الاختيار هنا بين شرين ، والشر الأكبر هو اللجوء إلى إجراءات فوق العادة لإقصاء حماس عن العملية الانتخابية. إن إقصاء حماس أو إلغاء الانتخابات لن يقود إلا إلى زيادة كبيرة في شعبية حماس. أما الخيار الآخر، وهو السماح لحماس بالمشاركة فهو، وإن كان يصعب هضمه ، أخف الشرين. إن على إدارة بوش أن تحث إسرائيل على وقف تهديداتها بمنع فلسطينييالقدس من التصويت. إذا كانت أميركا وإسرائيل تؤمنان بحق بأن شرق أوسط ديمقراطي هو الطريق الوحيد للسلام ، فعليهما أن يمنحوا هذا الخيار فرصة." هذا المنطق المبدئي المحترم من النيويورك تايمز يتناقض مع غياب تعليقها على فوز الإخوان في مصر، والتزوير الحكومي الفاحش ضدهم. وأتصور أن توماس فريدمان اليهودي الصهيوني عجز نفسيا عن الوقوف بجانب حق الإخوان الذي هو حق إنساني في ممارسة السياسية ، لأنها جماعة معادية لإسرائيل.. كما عجز عن الوقوف بجانب حزب مبارك لأن ذلك يعني مناقضة كل ما كان يقوله من قبل عن الديمقراطية والحريات .. ومن هنا نشأت المعضلة. أما تقارير المراسلين ، فقد أوفت النيويورك تايمز وغيرها (مثل دان مورفي في كريستيان ساينس مونيتور وسايمون تيسدال في الجارديان) بما يتوقعه القارئ الواعي. وقد ظهرت أفضل التقارير وأكثرها شمولا في النيويورك تايمز عن طريق مراسليها مايكل سلاكمان و نيل ماكفاركوهار. الأول ركز على جرائم القتل التي سقط فيها 14 قتيل ونقل أقوال شهود العيان الذين أكدوا على أن جميع حوادث إطلاق النار كانت من جانب قوات الأمن ضد الناخبين الذين كانوا يحاولون دخول اللجان للتصويت. وجاء تقرير المراسل الثاني مركزا على "بعبع" الإخوان الذي يلوح به مبارك للإدارة الأمريكية ، وكتابات التشويه ضد الإخوان ، ومنها مقالات عادل حمودة التي نقل منها أجزاء كبيرة. ويبقى سرد ما جاء في الافتتاحيات ومقالات الرأي القليلة ، وهذا ما سيظهر في مقال بموقع حزب الوسط خلال الأيام القادمة (عنوان الموقع www.alwasatparty.com)