شهدت الظاهرة الإسلامية -كظاهرة فكرية اجتماعية سياسية - انطلاقة على نطاق شعبي واسع منذ انهيار الخلافة العثمانية، وذلك بعد تداعى جهود المصلحين لرأب الصدع الذي انفتح في جدار الإسلام، وخلال الربع الأخير من القرن العشرين بلغت هذه الانطلاقة ذروة تقدمها الاجتماعي والسياسي وعلى مساحة جغرافية كبيرة استوعبت معظم البلاد الإسلامية. ولم تكن تلك الصحوة الإسلامية مجرد طفرة تميز بها مسلمو العالم بل تزامنت مع نهضة دينية عالمية شملت العديد من الديانات والمعتقدات المذهبية إلا أن المد الإسلامي كان الأبرز من بين تلك النهضات والأكثر انتشارا والأهم وقعا على أحداث العالم وشؤونه وتفاعلاته. ولعل من بين الأسباب الرئيسة التي ساهمت في تنامي الظاهرة الإسلامية وأكسبتها ذلك الزخم المبهر خصوصية التراث الإسلامي في احتضانه لثروة فكرية متجددة العطاء وعميقة المنبع وذات قدرة متميزة في طرح برامج حلول للمشكلات في مختلف ميادين وشؤون المجتمع، كما لعبت عالمية الإسلام ورسالته الإنسانية دورًا مكملا في استقطاب الشرائح المجتمعية المختلفة في العديد من بلدان العالم الإسلامي بتوقيت متقارب الأمر الذي ساعد سرعة النضوج الفكري والسياسي المتماثل بين الكثير من قطاعات المجتمعات الإسلامية سيما بين فئة الشباب والمثقفين والمهنيين، إضافة إلى ذلك كان للقبول الجماهيري للأطروحات الإسلامية أثر فعّال في تأصيل الظاهرة ودفعها نحو العمل المؤسسي والميداني بين مختلف الطبقات الاجتماعية. وقد أسست العوامل السابقة أرضية جاهزة للخطاب الإسلامي الذي شق طريقه وملأ مساحات إعلامية وجماهيرية واسعة كما ساعد على رواج الخطاب الإسلامي عاملان إضافيان: تجسد الأول: في الخطاب المبسط ذي المسحة العمومية حيث استحوذ الطرح الإسلامي على ثقة الجماهير في مختلف القطاعات وبين معظم شرائح المجتمع، وتبين ذلك جليا في سرعة وصول رموز العمل الإسلامي إلى قمة المؤسسات النقابية واكتساح الحركة الطلابية والمهنية في عموم الأقطار الإسلامية. أما السبب الآخر والمهم في نجاح الخطاب الإسلامي فيكمن في روحية التحدي والمواجهة، فإزاء النجاحات متعددة الأوجه للحركة الإسلامية استنفر الإعلام الغربي جهوده في تشويه صورة الإسلاميين والتحذير من اتساع رقعة نشاطهم والتهويل لنتائج وصولهم للحكم، ومن الطبيعي أن توازي هذه الحملة المكثفة بوسم الإسلام بأعتى صور الهمجية والتخلف والإرهاب ردة فعل داخلية في روح الصمود والتصدي ما اكسب الحركة الإسلامية مزيدا من التجذر والانتشار خصوصا مع مطلع عقد التسعينيات (حسن جوهر في دراسته الأطروحات الإسلامية الحركية، تقدم وتراجع وتجديد، الكلمة، السنة 7، العدد 26، شتاء 2000). ومع ذلك يمكن القول: إن التحديات السياسية والخارجية التي تواجهها الظاهرة الإسلامية ضئيلة الأهمية بالمقارنة مع التحدي الحقيقي والكبير الذي يواجهها وهو امتحان قدرتها علي مراجعة خطابها وإعادة تكوينه بأنقى أشكاله وأوضح صوره، ولا شك بأن عمليات تشويه صورة الإسلام على يد بعض الجهلة هي أشد خطرًا وأكثر ضررًا من تشويهات الإعلام أو ما يردده المتغربون عن الإسلام (ليث كبة، من أجل تجديد الخطاب الفكري والسياسي الإسلامي). فإذا ما أردنا أن نرصد أهم معالم الخطاب الإسلامي السائد على مدار نصف القرن الأخير لوجدنا أنه خطاب قد أجاب في لحظته التاريخية عن أهم الأسئلة بقدر ما أسعفته التجربة والاطلاع على أحوال واقعه الذي عاصره وعاشه وكان سؤال الوقت الذي أجاب عليه وهو الإسلام لماذا؟ وظلت الظاهرة الإسلامية بمجملها تردد نفس الإجابة حتى صارت تلك الإجابة قناعة عامة عند القاعدة الشعبية في معظم بلدان العالم العربي والإسلامي وفرضت تركيبية الواقع وتعقده وانفتاح العالم وتتداخل بلدانه سؤال آخر هو: الإسلام كيف؟ فلم تعد الناس تقبل بالشعار (وإن كان ضروريا لبلورة الفكرة) أو يروي ظمأها الجمل الإنشائية والعبارات الوصفية التي تقول كل شيء ولا تفسر أي شئ علي الإطلاق والإجابات التي يغلب عليها الإجمال تتسم بالغموض والتعميم فيقل أثرها وإن صدق وصفها، ذلك أن القدرة علي صناعة الأحداث وتوجيه المستقبل وصياغة المرحلة لا يكفي فيها التعميم وإن ناسب البدايات، ولا يغني فيها الإجمال، وإن ناسب المراحل الأولى. لقد شكلت مقولتا: شمول الإسلام والإسلام منهج حياة، جوهر الخطاب الإسلامي لعقود طويلة حتى صارت تلك المقولتان أقرب للخطاب التعبوي منها للبلاغ، وللحشد أقرب منها للتربية، ومن المفارقات أن تلك المقولات التي كانت مصدر قوة الخطاب الإسلامي في مرحلة سابقة هي سبب ما يتسم به الآن من ضعف وهشاشة أي أن الخلل المركزي هو في مناسبة الخطاب لظروف الزمان وإذا كان علي شريعتي قد تكلم عن جغرافية الكلام فأحرى بنا أن نتكلم عن تاريخية الخطاب وزمنيته، بمعنى أن كلاما قد يكون صحيحا وصالحا في زمان لمناسبته له وخطأ في زمان أخر إذا تخلفت تلك المناسبة. والظاهرة الإسلامية بحاجة أن يكون خطابها الفكري السائد خطاب جديد يعيش تحديات مرحلته ويجيب على أسئلة عصره ويتفاعل مع مستجدات ساحته فليس من الحكمة ولا من الصواب أن تعيش معارك عصور انقضت وأن تحمل سيفها الخشبي لتقاتل به في حرب النجوم "النووية" ولا يكفي لغطرسة القوة وهيمنتها أن يهجوها بيت شعر أو تهاجمها خطبة عصماء. وبقدر ما يقتدي الخطاب الإسلامي الجديد بالخطاب القرآني بقدر ما يبلور اتجاها يلتف حوله جموع المسلمين. إن أول ما يستوقفنا في الخطاب القرآني هو حيويته، تلك الحيوية التي من شأنها أن تجعل السامع/ المنصت المتأمل يقف موقف الحيرة والانبهار وتتملكه مشاعر الخشوع والامتثال. إن الظاهرة الإسلامية في تلك المرحلة من مراحل تاريخها عليها أن تقدم خطابا متماسكا للجماهير لا يحمل في طياته أوراقا مغطاة تتناقض مع ما يعلن، ولا يحمل ازدواجا مربكا، فتماسك الخطاب ضروري وهو شرط تعبئة الأمة وكسب ثقتها. ولابد لأي عملية إصلاح من أسلوب ونظرية عمل واضحة ومعلنة، لأن الوضوح والتصميم يعطيان الفرصة الكافية لإثبات صحة النظرية أو عدم صحتها، مع ملاحظة أن الحديث عن العلنية والوضوح ينطلق من القاعدة التي تعتبر غالبية الشعب "الأمة" مفتاح الحل، ومقصود الخطاب ومن ثم فهو يتوجه إليها.