فوجئت _ كما فوجيء كثيرون _ ب ( بوست ) غريب على ( الفيس بوك ) , قبل أيام , أثار حالة من الوجوم المؤلم و الحزن الطافح الذي يكسر النفس و يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا هلعا ً من ملامح الفترة القادمة التي بزغت مؤشراتها الاقتصادية بوضوح موجع و ربما كان هذا ( البوست ) جزءا ً تعسا ً من هذا الوضوح الصادم . و أكثر من اطلعوا على ( البوست ) لم يصدقوا أعينهم من فرط المفاجأة , و بعضهم اعتقد أن صاحب الصفحة الأصلية على ( الفيس ) قد سرق حسابه أو تعرض لقرصنة و إغارات ( الهاكرز ) تصورا ً أن هذا البوست لا يمكن أن يكون قد صدر عن هذا الرمز الباذخ الذي نعرفه جميعا ً منذ عقود ! فالكلام الماثل على الصفحة لا يمكن أن يمثل هذا الشخص الذي نعرفه جيدا ً , طبعا ً و فكرا ً و أسلوبا ً ! إنه كابوس ( كافكاوي ) نسبة إلى الأديب المعروف ( فرانز كافكا ) في رائعته : ( المحاكمة ) , حيث صور _ بضربات فرشاته _ ملامح كابوس مفزع كبير يضغط بثقله المرعب على أبطال العمل و شخوصه . و ليس من قبل التزيد أو المبالغة القول إن هذا البوست العنيف كصعقة الكهرباء , قد يكون مشابها ً لهذا الكابوس _ الفردي و الوطني و الاجتماعي _ الذي رسمته ريشة كافكا ! أما صاحب البوست فهو الإذاعي الكبير و الإعلامي الرائد المخضرم د / ( عادل النادي ) , الذي ظل نجما ً لامعاً في إذاعة ( البرنامج الثقافي ) لعدة عقود . و قد تربينا جميعا ً و انتعشت ذائقتنا الأدبية و الثقافية على وقع برنامجه العريق : ( مع النقاد ) . و هو واحد من أهم برامج الإذاعة المصرية _ لا شبكة البرامج الثقافية فحسب _ منذ انطلاقة البرنامج الثقافي ( و كان يسمى البرنامج الثاني ) عام 1957 . و ظل برنامج ( مع النقاد ) عبر ثلاثة و خمسين عاما ً منبعا ً للثقافة الرفيعة و الفكر الجاد الراقي و استقبلت استوديوهاته مفكرين و أدباء بوزن ( يحيى حقي ) و كوكبة راقية من المبدعين . و ربطتني _ بشكل شخصي _ صلة صداقة وطيدة حميمة مع د ( عادل النادي ) فكان نموذجا ً رفيعا ً للثقافة و التواضع و رقي لغة التخاطب و البشاشة الرفيعة التي تحتضن الجميع من كل الأطياف و التيارات . و شاركت مع د / ( النادي ) في برنامجه العريق : ( مع النقاد ) في عشرات الحلقات الإذاعية ناقشنا من خلالها عدة كتب في الشعر و الرواية و المسرح و التاريخ و الإسلاميات . ووصل النادي إلى سن التقاعد و داهمته أمراض الشيخوخة , خصوصا ً بعد تعرضه لحادث سيارة ترك أثرا ً صحيا ً سلبيا ً على قدرته على الحركة , و التقيته في بعض الندوات مؤخرا ً و البشاشة لا تبارح وجهه برغم المعاناة , و ابتسامته الدمثة لا تفارق ملامحه برغم الألم العضوي و النفسي , بعد أن عامله ( ماسبيرو ) بنذالة عجيبة و جحود لا يمكن تصديقه ! تخلى عنه المبنى العريق , بعد أن تربص ببرنامجه الناجح : ( مع النقاد ) عدة مرات , كان آخرها عام 2010 , حين رأت رئاسة ( الشبكة الثقافية ) , بفرمان أحمق متبلد , أن البرنامج لا ضرورة له و أنه آن أوان إعدامه دون مقدمة أو محاكمة أو حتى تقييم موضوعي ! كان ( عادل النادي ) كبير مذيعي البرنامج الثقافي و المتضلع في فن الدراما , في كل الأزمات , مصرا ً أن يقف بفروسية في عين العاصفة و أن يواصل بصلابة متحملا ً السحجات و الجروح و الضربات التي تأتي من الصديق _ قبل العدو _ و لكن إعجابنا بهذه اللوحة لا يتعين أن ينسينا أن للتحمل طاقة و نقطة حرجة تنتهي عندها قدرتنا على تلقي مزيد من الضربات ! و هذا هو المنعطف الدرامي في قصتنا مع د / ( عادل النادي ) ! فوجئنا _ إذن _ قبل أيام بالدكتور عادل النادي , يكتب على صفحته هذا البوست المباغت الصاعق : ( نظرا ً للانهيار الاقتصادي , و قلة الدخل التي تكفل لأسرتي أدنى سبل الحياة , أعلنها للجميع , قررت بيع قلبي لأعلى سعر , حتى أضمن لأسرتي حياة كريمة و لو لعام واحد بعد تسليمي قلبي للمشتري و رحيلي إلى عالم الحق تاركا ً دنيا النفاق . و الحمد لله قلبي سليم لم تصبه الأمراض من قبل . أنتظر عروض الأسعار , مع توقيعي على كل الأوراق المطلوبة التي تفيد بيعي قلبي بإرادتي ..) ! ! و تصورت للوهلة الأولى _ بعد موجة الصدمة الأولى _ أن في البوست دلالات رمزية معينة , و أن فكرة ( بيع القلب ) طرح رمزي لا علاقة له بسوق بيع الأعضاء الفعلي الذي قرأنا عنه و سمعنا عن صفقاته المروعة التي تطول الأعين و الأذرع و الآذان و الكلى ! و لكن بتحري الأمر في الوسط الثقافي و بمتابعة التعليقات المتنوعة ( المقهورة ) على البوست الصادم , تبين لي أن د / ( النادي ) جاد في الأمر تماما ً و أنه لا يهزل مطلقا ً , و أنه كان يرد على المعلقين على بوسته المباغت بالقول _ بصورة متكررة _ : ( الحاجة تدق أعناق الرجال ..! ..) و ذهب بي الحزن و عدم التصديق إلى مساحة مرعبة من التوقع و الترقب , حين وجدت أحد المعلقين من الأدباء محبي د / ( النادي ) يؤكد أن الأمر جاد كل الجد , و أن ثمة أطباء بدأوا فعلا ً في التواصل مع د النادي و أنهم عرضوا الشراء عليه , على أن تتم العملية خارج البلاد ! و مضى الصديق المخلص للدكتور النادي يستحثه على الصبر على المحنة و عدم المضي في هذا الطريق الذي نتخلى فيه عن سيد الجوارح و الأعضاء : ( القلب ) بطريق البيع و هو ما يعني فعليا ً ( إنهاء الحياة ) ! بل و هدده الصديق المحب بتقديم بلاغ عنه رسميا ً للسلطات للحيلولة بينه و بين هذه الخطوة الانتحارية التي ملأت قلوب محبيه هلعا ً و رعبا ً و حزنا ً يتغلغل في العظام ! و مباشرة و دون لف أو دوران , هل نستطيع أن نعفي الرئاسة من المسؤولية عن هذه الفاجعة أو المهزلة و عن فواجع و مهازل مماثلة طالت رموزا ً كبيرة نهشها الألم في خريف الأعمار ؟! و هل لم تستطع بالفعل ( الخزانة المصرية ) أن تدبر نقودا ً لد / ( النادي ) ليناهض مرضه و يتلقى العلاج الملائم أو يجري العمليات الضرورية ؟! و هل هذا هو الوسام الذي يتلقاه الرمز الإعلامي الكبير ( عادل النادي ) بعد أن خدم ماسبيرو و الميكروفون ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن بعفة و نزاهة , و دون أن ينساق لإغراء الفضائيات الخاصة على حساب مبادئه ؟! ألم يكن بمقدور الدولة أن تقتطع من ملايين وزير التموين المقال , و التي أنفقها على الإقامة الأسطورية بسميراميس لمدة عامين , قروشا ً زهيدة لتأمين ابن مصر:( عادل النادي ) ؟! ألم يكن بمقدور الخزانة المصرية أن تقتطع من صفقة الطائرات الرئاسية الثلاث _ و تقدر بالمليارات _ قروشا ً زهيدة لتخفيف الألم العضوي و النفسي عن ( النادي ) و نظرائه من النبلاء الذين خدموا مصر بصدق عمرا ً طويلا ً و لم يحصدوا _ في خريف الأعمار _ إلا الجحود و التعاسة و الأوهام ؟! هل هذه هي مصر التي ستصبح ( قد الدنيا ) ؟! و إذا كان النادي يبذل جزءا ً من عظمه و لحمه و جوارحه , ليسبح قارب الأسرة في وجه النوة المالية العاصفة التي أوشكت أن تغرق القارب , و هو الإعلامي و الإذاعي و المبدع الكبير , فماذا سيصنع المنسيون / المهمشون في الضواحي النائية و العشش و العشوائيات و القرى البعيدة و ماذا ستصنع عائلة الطبقة المتوسطة و الدنيا , و مصر مقبلة على مرحلة ( انسداد الموارد ) الكامل بالمعنى الحرفي ؟! كم أستاذا ً جامعيا ً سيضطر إلى بيع ( الكلى ) , و كم صحفيا ً أو مهندسا ً أو معلما ً أو حدادا ً أو خراطا ً أو سائقا ً سيضطر إلى الدفع بأعضائه في سوق بيع الأعضاء , لتسبح قواربهم التي تتلاعب بها أزمات البطالة و الموازنة العامة و التضخم و تراجع الاحتياطي النقدي الأجنبي و تآكل قيمة العملة و القفزات الملتاثة الهستيرية للأسعار, و توقف موارد السياحة و تحويلات المصريين بالخارج , و شحوب موارد المساعدة الخليجية و دخل قناة السويس ؟! ألم تشم تقارير الجهات الرسمية و مسوحها الإحصائية و استبياناتها رائحة ( الشياط ) النافذة التي تتفاعل في الصدور و المناطق المنسية من الوطن ؟! ألا يعطي هذا الحدث الرمزي للصديق العزيز د ( عادل النادي ) مؤشرا ً لشيء خطير قادم ؟! و هل سيكون صندوق النقد الدولي _ بقروضه المنتظرة ! _ هو المنذور لتضميد الجراح أم حشوها بالملح و تغذية الجسد المنهك بالغرغرينا ؟! قد يمكن إدارة الظهر لضغط الحاجة الرهيب و التذكير نظريا ً بأن الصفقة ( أي صفقة بيع الأعضاء ) _ برمتها _ لون من الانتحار حين يكون محل البيع هو القلب الذي تنتهي معه الحياة بالضرورة ! و قد يمكن أن نعيد على الأسماع قوله ( تعالى ) : ( و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ً ) ( النساء / 29 ) , و قد يمكن التذكير بحديث ( جابر بن سمرة ) حين امتنع النبي ( صلى الله عليه و سلم ) عن الصلاة على الرجل ( الذي قتل نفسه بمشاقص ..) ( و المشاقص هي السهام العراض ) , بمعنى أنه رفض أداء صلاة الجنازة على المنتحر . لكن هذا االتأصيل الشرعي المتعلق بنصوص الانتحار , لا قيمة له إذا لم يعمل حسابا ً لأزمة اقتصادية عاصفة رهيبة غير مسبوقة يمر بها الوطن , ولا جدوى منه إذا لم نذكر الربان/ القائد لمقود السفينة بمسؤولية الراعي عن رعيته , و هي مسؤولية لا يمكن أن تحل محلها العبارات الوجدانية الدافئة , أو الحديث العاطفي عن قرط الحاجة ( زينب ) و ( نور العيون ) ! و إذ أناشد د / النادي أن ينزع من رأسه تماما ً فكرة هذه الصفقة الملعونة , و أناشد ماسبيرو و رئاسة الوزراء النظر إلى هذا الأمر بضمير يقظ ينزل الناس منازلهم , فإن من واجبي التذكير مجددا ً _ لصانع القرار أساسا ً _ بأن سفينة مصر تلامس بالفعل المحطة الخطيرة الأصعب التي حذرنا من الاندفاع نحوها منذ البداية , و هي محطة لا يجدي معها الخيار الأمني الذي تصور بعضنا أنه دواء لكل الآلام و ترياق شاف من كل الأوجاع . و حين تطالع في المرآة صورة الجرح النافذ الذي يمتد بعرض رأسك , فإن تهشيم المرآة لا يمكن أن يكون حلا ً !