الحقيقة أنني في حيرةٍ في الحديث عن الإنسان المصري ولا أعلم ماذا أقول من شدة ما لاقاه على مدار تاريخه الطويل الممتد منذ عهد الفراعنة قديماً مروراً بالدول التي استعمرت البلاد واستعبدت العباد من شعب مصر العظيم! لكنني فُزعت حينما انتهيت إلى نتيجةٍ بعد طول بحث وتدقيق أن المصري المسكين شريكٌ في الجناية على نفسه، وذلك لثقافة الرضى بالقليل والتي تم تغذيتها من قِبل كهنة البلاط الحاكم وعلماء السلطة، أو لخوفه وهلعه من بطش الأنظمة وقوات الدرك إذا ما حاول الحديث عن حقوقه أو طالب بها في الوطن الذي يعيش فيها. لذلك آثر السلامة مبتعداً عن تلك المنطقة الخطرة بل وجعل يوصى أبناءه بالسير على ما سار هو عليه ضماناً لسلامتهم ولعدم تضّيع الوقت فيما لا فائدة منه ولا طاقة من ورائه! هذا هو حال المصري مع حقوقه الواجبة في وطنه الذي يعيش فيه، من قديم الزمان حتى أيامنا هذه وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير والتي كانت من أهم مطالبها عيش.. حرية.. كرامة ، ولقد كرّست الدراما والإعلام ذلك المعنى حتى تغنى الشعراء والمطربون ورددت إحداهن أغنيتها الشهيرة : "منقولشي إيه إدتنا مصر ** قول حندي إيه لمصر"؟! خطرت في بالى تلك المفاهيم التي حُمّل بها عقل المصري تحميلاً من أجل خداعه بل وإخضاعه! لما تريده الأنظمة الحاكمة والقائمة على مقدرات البلاد والعباد، وأنا أتابع ما يجرى من تضييق على المصريين بكل صور التضييق فحدّث ولا حرج عن غلاء الأسعار وكثرة الضرائب، مع رداءة الخدمات المُقدمة في كل القطاعات من تعليم وصحة ومواصلات وغذاء ومياه، وأضحى كل شئ في مصر خاضع للمثل الشهير " اللي ممعهوش ميلزموش" !! وقد أدى غلاء الأسعار وانخفاض قيمة العملة وبالتالي ارتفاع نسبة التضخم إلى تآكل نسبة الطبقة الوسطى بشكل مخيف جداً تلك الطبقة المعروفة في أي مجتمع بكونها عماد الاستقرار وحلقة الوصل بين الأغنياء والفقراء القادرة على تقليص الفجوة، وكلما زاد عدد المواطنين المنتمين لتلك الطبقة وارتفع نصيبهم الكلى من إجمالي الناتج المحلي مع التحسن في مستوى الخدمات الأساسية المقدمة لهم كالتعليم والتأمين الصحي والضمانات الاجتماعية كلما توازنت حركة المجتمع المعنيّ اقتصاديا وأمكن احتواء أزماته الكبرى كالفقر والبطالة والأمية. والمشكلة أن المواطن المصري الذي لطالما تنازل عن حريته وكرامته من أجل لقمة العيش لم يضمن مع كل تلك التنازلات لقمة عيشه المرجوة فأصبح مجرد الحلم بالشبع- كما تبغي البهائم - أمراً بعيد المنال والمتابع لحالات الانتحار نتيجة المعاناة الشديدة والحياة التي لم تعد ترحم فقيراً ولا أرملة في ظل كلام معسول لا علاقة له بالواقع الذي يعيشه هؤلاء الفقراء، في الوقت نفسه نطالع أخبار السادة المسئولين وهم في منتهى الترف والدعة مع مطالبتهم للمواطنين بالتقشف وترشيد الاستهلاك في كل شئ حتى إنارة المساجد وتكييفها! رأينا السيد وزيرالتموين مقيماً بأحد فنادق القاهرة الفخمة منذ توليه حقيبته الوزارية وقد بلغت فاتورة إقامته سبعة ملايين جنيه!. هناك أمور خطيرة ومتغيرات مُبكية تحدث للمصريين جراء الفقر والضيق الذي آلمَّ بهم حتى بدأت بعض الظواهر الاجتماعية الموجودة أصلاً في التعاظم مثل العنوسة وتأخر سن الزواج بل وأقدمت كثير من النسوة والفتيات للعمل في سوق الرقيق من خلال القوادين ممن يختلفون في المسمى والجنس ويتفقون في الهدف وهو استغلال هؤلاء وتقديمهن للراغبين في المتعة الحرام نظير مقابل مادي في ظل تنكر الدنيا لهم ، صحيح أن المثل العربي يقول : تموت الحرة ولا تأكل بثدييها! لكنّ الجوع والفاقة ومتطلبات العيش التي لا ترحم دفعت مثل هؤلاء إلى ذلك في ظل إعلام لا يقدم لهم إلا مظاهر الرفاهية والترف ويسعّر عليهم وعلى الشباب نار الشهوات بما يبرزه من مفاتن البغايا المعروفات بالفنانات! وختاماً فعلت الأزمات الاقتصادية بالمصريين كل ما يسوءهم ولم ترحمهم الدولة التي تفرّغ مسئولوها للتصريحات والأكاذيب التي لا علاقة لها بالواقع الذي يعيشونه؛ بل وأقدم النظام والبرلمان الذي أتى به على العبث بمشاعر الناس واستفزازهم حينما ناقش مجلس النواب المزعوم فرض 10جنيهات على الفقراء لمصلحة السادة القضاء! وهكذا ذهبت التصريحات الوردية التي وعدتهم بأنهم سيحيون حياة سعيدة وسيشاهدون مصر قد الدنيا! وأن السلطة تسهر على راحتهم لتعوضهم خيراً عن الأيام الخوالي التي ذاقوا فيها المُر كأساً مترعةً لأن هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه أو يرفق به!! اللهم ارفق بشعب مصر وارحم المستضعفين منهم.