الهروب من الإحباط ، السياسي أو الاجتماعي ، له صيغ عديدة ، بعضها يكون جادا ، وبعضها يكون باللجوء إلى الخيال وربما إلى المخدرات بأنواعها ، المعنوية والحقيقية ، وأخشى أن يكون هذا هو حال قطاع من المعارضة السياسية المصرية التي "تحلم" بأن تخوض نزالا "ديمقراطيا" في العام 2018 من أجل إزاحة الرئيس عبد الفتاح السيسي من السلطة ، وهذا "الحلم" يضاف إليه أحيانا المزيد من المحفزات للغيبوبة السياسية ، من أن جهات نافذة في مصر سوف تقنع الرئيس بأن يكتفي بالأعوام الأربعة ويخلي الطريق أمام جهد جديد وأفكار جديدة لإنقاذ الوطن ، وبعض المحفزات للخيال العلمي أو الخيال السياسي تذهب إلى أن بعض "الأصدقاء" الإقليميين من داعمي السيسي سوف يضغطون عليه أو يقنعوه بأن يترك القيادة ويفسح الطريق لغيره من أجل تصحيح المسار . الخبرة السياسية والإنسانية في العالم الثالث واضحة وضوح الشمس في كبد السماء كما يقول العرب ، أن "اللي ركب ما بينزلش" ، خاصة عندما تكون في منظومة لا تملك أي أسس معقولة أو صلبة للديمقراطية ، والمؤسسات هشة ، والأحزاب ظلال غير حقيقية ، والمعارضة معارضات ومزق مشتتة ، ومنذ نشأة الجمهورية في مصر لا يتم نقل السلطة عبر أي أدوار ديمقراطية ، باستثناء عامين في أعقاب ثورة يناير لظروف انتقالية ، فالموت الطبيعي أو الإزاحة القسرية كانت هي الطريق الوحيد لتغيير رأس السلطة ، ثم تأتي "الإجراءات" الديمقراطية في إطار احتفالية تدشين ما تم فرضه ، لا يوجد من يتخلى طواعية ، هذه قاعدة مفروغ منها ، وهي أصدق أنباء من أي "خزعبلات" سياسية يروجها البعض لكي يعيشوا الوهم أو يعيشوا الناس في الوهم ، أو يحاولوا إقناعهم بأنه بمجرد أن يطرحوا شخصية لطيفة عفيفة ظريفة أمام السيسي سيمكن لهم إنقاذ الثورة وإنقاذ مصر وانتزاع منصب رئاسة الجمهورية . في أكثر من خطاب أرسل السيسي إشارات واضحة ، بأنه "باق" وأن مشروعه لن ينتهي قبل عشرين عاما على الأقل ، أو هكذا يخطط ، وقال لهم أنه وضع "استراتيجية" لمشروعات يتم تنفيذها عبر عشرين أو ثلاثين عاما ، وقال لهم أنه لن يرفض رغبة الشعب في أن يترشح مرة أخرى ، وأنه إذا دعاه الشعب للترشح سيفعل ، وهذا يعني بوضوح أن المسألة مفروغ منها ، لأنه لا يوجد أي معيار موضوعي أو سياسي لمعرفة أن الشعب يريد أو لا يريد إلا عبر صندوق الانتخابات ، وعندما يحين الحين تكفي بعض الأدوات الإعلامية الموالية أو الرسمية لتأكيد "الرغبة الشعبية الجارفة" ، ولكنه يقدمها الآن للناس بصورة لطيفة ، بل إنه قال أن لديه "شروطا" للترشح ، يعني أن الرجل واثق وزيادة ، لدرجة "التدلل" على الشعب ، وأن الأمر ليس وفقا لقواعد الديمقراطية الني نعرفها في العالم ، بأن يفرض الشعب شروطه على من يترشح ، بل هي ديمقراطية بخصوصية مصرية عريقة ، فالرئيس هو الذي يفرض شروطه على الناس لكي يترشح ؟! في "دولة" لا يستطيع صديقنا الدكتور عمرو الشوبكي أن يحصل على "مقعد" برلماني صغير ، من "ابن محامي" مقرب من السيسي ، رغم حكم محكمة النقض ، أعلى محكمة في مصر ، والذي يؤكد أن مخرجات صندوق الانتخاب تقول بوضوح أن عمرو هو صاحب الأصوات الأعلى وهو الفائز ، ورغم ذلك يظل الأمر معلقا وينتظر الجميع "تداول" الكبار في القرار ، ويتم تعليق نزع "الكرسي الصغير" من ابن "المقرب للسيسي" حتى ينتهي عمر البرلمان الافتراضي ، يكون من العبث أن تحدثني عن انتزاع "الكرسي" الكبير من السيسي نفسه بصندوق انتخاب ، وقد قال لكم الرجل بوضوح شديد ، أنكم لستم في دولة وإنما "أشباه دولة" ، وفي أشباه الدول لا تمضي "الشرعية" بالصندوق وحده ولا حتى المحاكم ، وإنما وفق حسابات أخرى ومنطق آخر . مشكلة مصر دائما ليست في "شخص" الرئيس ، وإنما في "المنظومة" الحاكمة ومعادلات القوة في الواقع السياسي ، ومشكلة مصر الآن أنها لا تملك "البديل" ، ولا أقصد البديل كشخص يترشح لمنصب ، بل البديل الشعبي كقوة سياسية تملك حضورا وجسارة ووعيا سياسيا وقادرة على الحشد والتعالي على الحسابات الصغيرة ومرارات النفوس الصغيرة والقاصرة ، مشكلة مصر في تمزق نخبها وقواها السياسية وحتى نشطائها الشباب الذين انتقلت لهم آفات "العجائز" وأمراضها ، فأنستهم أول مقومات النصر في ثورة يناير ، مشكلة مصر ليست في "كرسي" الرئاسة ، وإنما في وجود أو تخليق التيار الشعبي السياسي المدني الرئيسي القادر على التواصل مع جذر المجتمع والقادر على اكتساب ثقة المجتمع والقادر على دفع ثمن الصمود السياسي لانتزاع الديمقراطية في نزال "النقاط" السلمي الطويل والمرهق ولكنه الأكيد والراسخ ، مشكلة مصر في غياب الإطار الفكري الجامع لعقد اجتماعي سياسي ناضج وقادر على تحقيق الحد الأدنى من الإجماع الوطني ، وبدلا من البحث في جوهر المشكلة وحقيقة أزمتنا السياسية ونواجه أنفسنا بأمراضنا بشجاعة ونبدأ الطريق الصحيح والمثمر والجاد للتصحيح والإنقاذ ، يهرب البعض إلى الخيال اللذيذ ، فهو رخيص وبدون ثمن أو جهد ويصنع الضجيج الإعلامي المحبوب ومعه يصنع رموزا كرتونية فارغة ومعزولة عن الناس والواقع ، ويسحبنا البعض بخبث أو بحسن نية إلى مخدرات سياسية تعيش الناس في الوهم انتظارا لتاريخ لن يجيء أبدا .