تحمل ذكريات فض رابعة والنهضة وميادين مصر، ذكريات مليئة بالأسرار، فداخل كل شخص شارك فى فض الاعتصام يوم 14 أغسطس 2013 أو متظاهر، تفاصيل وأسرار قد تموت معهما وقد يأتي اليوم لتنكشف كل ما يحويه داخلهما. فجر هذا اليوم، سمع الجميع مكبرات الصوت -هذه المرة جاءت من خارج الميادين فهى ليست مكبرات المنصة التى ألفوا سماعها طيلة مدة الاعتصام- وإذ بأصوات تنادى وتعطى الأوامر للجميع بضرورة الانصراف لأن عملية الفض ستتم الآن يجب على الجميع الخروج عبر الممر الآمن سنقوم بفض الميادين بأوامر من النيابة العامة. حاصرت قوات الأمن، جميع الاتجاهات والشوارع، حشد أمنى غير مسبوق، قوات ومدرعات وتشكيلات قتالية وخاصة. اكتشف "علي.أ"، أحد المتظاهرين أن شقيقه الأصغر أحمد – مجند بقوات الأمن ضمن القوات المشاركة فى عملية الفض، حيث كشفت مكالمة هاتفية بين على وبين والدهما بضرورة التحرك من الميدان وأن تلك اللحظات التي يعيشها صعبة عليه ومؤلمة، فى نفس الوقت، الشقيقان ضد بعضهما البعض قد يموت أحدهما على يد الآخر. في مكالمة مليئة بالحزن والآهات، أم على، نصحته فيها بالاتجاه نحو المخرج الآمن للخروج من الميدان وما كان منه إلا أن طمأن والديه بأنه سوف يخرج من الميدان بدون أذي, وأغلق الهاتف على دموع أمه وصوتها يخنقه الحسرة والألم. تمر الدقائق كأنها ساعات وتنهمر قنابل الغاز من كل الاتجاهات، ويعتلى القوات أعلى العمائر المحيطة بالميدان فلا يجد علي، مخبأ سوى أسفل الخيام حتى لا يراه القناصة, فحاول الاتجاه مع بعض الأشخاص إلى أحد الشوارع الجانبية لمحاولة الخروج من الميدان فوجد مجموعة من الجنود فتراجع ورفاقه إلى الميدان مرة أخرى. ومع مرور ساعات من الملحمة، تأتى مكالمة من رقم مجهول لعلي، وعندما رد على المكالمة وجد صوت خائف ومتوتر يقول له "أنت فين يا اخويا؟ متحاولش تطلع دلوقتى وخدلك ساتر, أنا مش هسامح نفسى لو حصلك حاجة وأنا يا أخويا مش بأيدى حاجة اعملها اتجه للممر الآمن وحاول تهرب لأنك لو فضلت عندك هيتقبض عليك أو هتموت". فكان الرد من "علي" لأخيه "متقلقش يا أحمد أنا كويس" وحاول كل منهما يطمأن الآخر. ومع اقتراب المساء وفى الساعة الرابعة عصرًا، توقف إطلاق النيران قرر "علي" مع العشرات الخروج من الميدان لأن احتمال الموت موجود فى كل الاتجاهات. ومع اتجاه علي، ومن معه نحو المخرج الآمن من المكان الذى كانوا يختبئون فيه وجد الآلاف من المعتصمين يتجهون نحو عدة مخارج, فقرر أن يتجه مع العدد الأكبر الذى كان يتجه نحو جامعة الأزهر، ومع اقترابه من تقاطع نافورة رابعة بالقرب من النصب التذكارى وجد المئات من الجنود ومجموعة من المدرعات والمصفحات يصوبون أسلحتهم تجاه المتظاهرين فما كان منه هو وكثير ممن كان معه إلا أن يسلمون أنفسهم. خرج على بسلام، من الميدان بعد لحظات الخوف والقلق والتوتر والألم لكنه بدأ رحلة أخرى من المعاناة حيث اكتشف أن حالة الطوارئ قد فرضت بالبلاد ولا يوجد مواصلات ولا مأوى له، خاصة أنه يريد العودة إلى منزله فى إحدى المحافظات البعيدة، وبينما يفكر فيمن يلجأ وهو لا يعرف أحدًا بالقاهرة فوجئ بمكالمة هاتفية من والده وأخيه للاطمئنان عليه وحكى حاله لأبيه وما هو فيه فاقترح والده أن يذهب لأحد أقاربه الذى يسكن بالقاهرة. ونجا على من عملية الفض بسلام وعاد الشقيقان والتقيا مرة أخرى فى بلدتهما ويحملان ذاكرة مأساوية تلازمهما طيلة حياتهما. كيف تلقى مجند نبأ مقتل شقيقه فى رابعة؟ بدأ مجند سابق نشاطه المعهود داخل طابور اللياقة البدنية فى الصباح الباكر بأحد الأيام، المشحونة بالتوتر والأجواء المتشددة خلال فترة أحداث رابعة العدوية، بالإسكندرية، التى صاحبها طوارئ داخل فترة التجنيد، رن هاتف المجند السابق على صوت غير مألوف لدية ظن المجند فى صفوف القوات، أن هذا الهاتف للاطمئنان على صحته وأحواله كالعادة من الأهل والأصدقاء، لكن حملت هذه الرنة ما لا يحمد عقباه وهو وفاة شقيقة الأصغر المعتصم بأحداث رابعة العدوية. روى المجند السابق ل«المصريون»، تفاصيل تلقيه صدمته عقب مقتل شقيقة الأصغر، بدموع الأسى والحزن التى سرقت من جفون عينه تاركة وراءها هالة سوداء على جبينه، الذى استطاع التماسك منذ تلقيه الصدمة، هل يخبر قادته بمقتل شقيقه فى أحداث رابعة، وهو الذى تحسنت علاقته بهم ويحبونه، أم ينفجر غضبًا فى وجوههم ومواجهة أدراج الرياح التى تخيم على فترة التجنيد وتهدده بالمحاكمات العسكرية. استطاع المجند الصغير، التغلب على الأفكار التي داهمت عقله ولجأ إلى حيلة ماكرة، تتلخص فى طلب إجازة لمدة يومين دون إخبار أحد من زملائه، لكن الأجواء المشحونة بالغضب تسببت فى وقف سير الإجازات ومنع أى تحركات خارج المعسكرات، وهو ما جعل يرفض طلب إجازته ولكن أحد القيادات سمح له بالنزول على مسئوليته الشخصية مقابل العودة بعد يومين حتى لا يتعرض للمساءلة القانونية. ينفى المجند السابق تهمة الأخونة التى لاحقت شقيقه الأصغر منذ قتله، داخل أحداث رابعة، لكنه أيد أنه من أبرز مؤيدى الريس السابق مرسى وكان يحدثه دائمًا عن الشرعية وعودة الحياة المدنية لحكم الشعب مرة أخرى. يقول لنا المجند، إنهم وجدوا صعوبات فى تصاريح الدفن والتفكك الأسرى الذى لاحقهم، وهروب والده خارج مصر وسجن شقيقه الثالث، ليتوقف الشاب العشرينى ويلتقط أنفاسه ويلفظ بكلمات تمتزج بالحزن مغلظًا كلامه بقسم اليمين قائلاً: "والله لم نكره أبدأ جيشنا ونحب الوطن مثلما يحبه غيرنا". وبعد مرور 48 ساعة على تلك الإجازة التى حددتها القوات، دار فى رأس الشاب تساؤلات عديدة منها الهروب من التجنيد وعدم استكماله مرة أخرى، لكن تدخل الأهل والأقارب ساعده على القرار الحكيم بالعودة مرة أخرى إلى أقرب وحدة تابعة لقوات الأمن وتسليم نفسه لاستكمال فترة تجنيده. يقول المجند السابق، بعد أول ساعة من عودته للخدمة، قرر التعامل دون إظهار أثار الحزن عليه، لكن المفاجآت أثبتت علم القادة بمقتل شقيقه فى أحداث رابعة قبل طلبه الإجازة. عاد إلى خدمته، وحصل على شهادة إتمام الخدمة العسكرية بقدوة حسنة، ممزوجة بمرارة الأيام.