إتصل بي وأخبرني أنه أحد المتابعين والمعجبين بكتاباتي، وقال لكن لدي سؤال حيث ألمح إعجاباً ودفاعاً عن شخصية وتاريخ جمال عبد الناصر، فكيف تجمع بين شخصيتك الإسلامية وحبك لعبد الناصر؟ فسألته وما المانع، لأن تكويني الإسلامي والوطني يدفعني للإعجاب ومحبة هذا الرجل الذي درست تفاصيل تاريخه ومواقفه فوجدته نموذجاً للشخصية الإسلامية والعربية والمصرية الوطنية. في " فلسفة الثورة " يحدد عبد الناصر الدوائر الثلاث التي تنتمي إليها مصر ومنها تنطلق للتأثير الخارجي، وهي الدائرة العربية وثانياً الإفريقية ثم الدائرة الإسلامية، ويؤكد أن المسلمين بامكانياتهم من الممكن أن يصنعوا المعجزات "، بل إن عبد الناصر سبقَ في رفعه لشعار " الإسلام هو الحل " – لكن بصورة واقعية قابلة للتطبيق وبعيدة عن التوظيف الدينى- ؛ فقال " الحل الصحيح في بلادنا العربية والإسلامية منذ نزل القرآن علي محمد بن عبد الله يدعو إلي الإخوة الإنسانية ويفصل مبادئ العدالة الإجتماعية علي أساس من التراحم والتكافل الأخوي والإيثار علي النفس في سبيل النفع العام للجماعة بغير طغيان علي حرية الفرد ولا إذلال له ولا إنكار لذاتيته ". يدعو عبد الناصر الفلاسفة والمفكرين إلي الكف عن البحث، فى أحد مقالاته التي نشرتها سلسة إخترنا لك عام 54م، والسبب كما يقول : " عندنا الحل، الحل هو الذي نزل به الوحي علي نبينا منذ ألف وثلاثمائة سنة، هو الحل الأخير لمشكلة الإنسانية". كيف خسرَ الإخوان إذاً رجلاً كهذا، يجمع بين حب الدين والوطن والرغبة في خدمتهما ولديه ما أخبر عنه مؤرخ الإخوان محمود عبد الحليم في كتابه "أحداث صنعت التاريخ": "لمحة عبقرية وله طموح يفوق كل تصور"، ويصفه في موضع آخر بصاحب "الذاكرة الفولاذية والقدرات التكتيكية والطاقات الهائلة، وإستحوذ علي الضباط الأحرار وإستطاع السيطرة عليهم وعلي مقاليد البلاد". ليس هذا فحسب، بل كيف تخسر الجماعة زعيمًا بهذه الضخامة كان وفيًا للشيخ البنا ومنهجه؟! – ربما النهج الإصلاحي الذي خلص إليه قبيل إغتياله - . يقول الشيخ الباقوري "حين وليتُ الوزارة في 1952م زرتُ المرحوم جمال عبد الناصر، وكانت زيارتي إياه في حجرة صغيرة علي يسار الداخل إلى بيته، ودعاني إلى الجلوس علي كنبة صغيرة لا تحتمل أكثر من شخصين أو ثلاثة، ثم قال لي: هنا كان يجلس الشهيد حسن البنا، فقلتُ: أرجو أن يكون مجلسي هذا مُذكراً لك بما عسي أن تكون ضقتَ به يوماً من الإخوان المسلمين ، فقال الرجل: لا ، وستري يوماً أننى لم أكن عدواً لهم" . ولم يكن عبد العزيز كامل والغزالى والبهي، ثم محمد حبيب ومختار نوح وكمال حبيب وناجح إبراهيم وكرم زهدي.. الخ أعداءاً للإخوان، إنما تعادي الجماعات كل صوت إصلاحى وفكر متطور ووجهة نظر مخالفة للقيادة. عبد الناصر كان مستهدفاً إبتداءًا لأنه خرج من الإخوان، ولأنه كان مسئولاً عن تشكيلات الإخوان بالجيش ومعه أسرار التنظيم، وعضو بهذا المستوي إذا خرج يُخلى سبيله – بالمعنى الحركى يتم التخلص منه كما يوضح الصباغ في "التنظيم الخاص" معنى إخلاء السبيل لمن خان العهد أو أفشى السر - . وفى الوقت الذى كانت جميع خطط إستهدافه معلومة لديه كما يقول أحمد رائف في "صفحات من تاريخ الإخوان" : "كان كل شئ عن الإخوان مكشوفاً أمام الحكومة والمباحث العامة"، إلا أن عبد الناصر – كما يؤكد رائف أيضاً "كان حريصاً على إستخدام الإخوان وعدم الإنفصال عنهم" . وسبب آخر أنه حل الجماعة، وقد قتلَ الإخوان النقراشي باشا لنفس السبب عندما حلها للمرة الأولى، وقد هتفوا صراحة في مظاهرة عابدين الشهيرة " دم الشهداء بدم جمال "، وسيكررون ذلك مع كل من يحلها مجدداً. لذلك استفحلت دولة المخابرات وأصبحت أجهزة التنصت في كل مكان، وصار هاجس الحفاظ علي حياة جمال عبد الناصر بحجم إستماتة جميع رجال هذا العهد في حماية الثورة من السقوط. الوزير الباقوري من ضمن من وُضعَ فى بيته جهاز تنصت، ولم يقترب عبد الناصر منه وهو يعلم نشاطه في خدمة خصومه السياسيين ومعاونة أسر معتقليهم والانفاق عليهم من مال الأوقاف! لكن أوقعه تسجيل لحديث دارَ فى بيته كان بطله الكاتب محمود شاكر نال من عبد الناصر وطعن فى أمه ولم يرد الباقورى غيبته – ويبدو أنه كان يصلى - . عبد الناصر يُسمعه ما سجله في بيته في مشهد عجيب، لكن الأعجب هو المغزي فقد كانت دموع عبد الناصر وحرصه علي ألا تمس المخابرات الباقوري بسوء كفيلة بفهم المسار الذى حرص َ عليه مُصلح مطارَد من الجماعة، متحالفاً مع مُصلح مطرود منها. مطاردة قديمة حديثة فيها من المآسي الفردية وعلي المستوى الإنساني ما فيها ونحن أعلم الناس بها حيث عشنا وخضنا تلك التجربة اليوم بكل تفاصيلها المخزية الكاشفة، لكن الأهم مضارها الكارثية علي المشروع الوطنى؛ فجهود المصلحين للتوافق والمصالحة ممنوعة داخل الجماعات، ثم مُلاحقة خارجها، وهو ما يعوق المصالحة الوطنية ومشروع التكامل التاريخي الذي يوحد الأمة بجميع رموزها وقيادييها وعلمائها ومفكريها ومبدعيها في مواجهة أعدائها الحقيقيين. ملاحظة: هذا الطرح قدمته مراراً قديماً وحديثاً ومعظم ما ورد بالمقال ذكرته في محاضرات وقدمته مبكراً للإخوان وحلفائهم قبل سنوات.. فهو قناعة فكرية لدي وليس تكتيك مرحلي.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.