أول رئيس لمصر بعد ثورة يوليو دفع ثمن معارضته لبقاء العسكر بالسلطة.. أطاح به «ناصر» عقب حادث المنشية بتهمة الاتصال ب«الإخوان» رفضت القبض على مجلس قيادة الثورة للحفاظ على الجيش.. السادات كان عظيمًا ويكفيه نصر أكتوبر هذا الرجل ظلم حيًّا وميّتًا، وكانت كل جريمته، أنه اختلف مع ثوار يوليو من أجل الديمقراطية فشطبوا اسمه من كتب التاريخ، رغم أنه أول رئيس للجمهورية؛ فهو الذى حمل رأسه على كفيه ليقود ويتصدر تنظيم "الضباط الأحرار"، صباح يوم 23 يوليو 1952. فما لا يعرفه الكثيرون أن محمد نجيب، كان أول رئيس لمصر فى عهد الجمهورية، بعد إسقاط حكم أسرة محمد علي، بعدما اختاره "الضباط الأحرار"، ليكون قائدًا للثورة؛ حتى يتحقق لها النجاح والشرعية فى الأوساط الشعبية والعسكرية. فقد كان لنجيب شخصيته وشعبيته المحببة للشعب المصري، حتى قبل قيامه بقيادة الثورة، إذ كان من أعلام العسكرية المصرية وقتذاك، وحصل على نجمة فؤاد الأول مرتين لبسالته، وشارك فى الحرب ضد القوات الألمانية فى عام 1943، كما حارب فى فلسطين 1948 ونال شرف الإصابة فيها 3 مرات، وحصل على رتبة لواء أركان حرب. وقد رشح وزيرًا للحربية فى وزارة نجيب الهلالى، لكن القصر الملكى عارض ذلك، بسبب شخصيته المحبوبة لدى ضباط الجيش، وبعد أيام من انتخابه رئيسًا لنادى الضباط فى يوليو 1952، قامت الثورة على حكم الملك فاروق، وحاصرت قوات الجيش قصر عابدين. ولم تكد تمر أيام حتى أجبر رجال الثورة، الملك فاروق على مغادرة مصر، والتفت الجموع حول محمد نجيب، الذى أعلن أن الجيش سيؤدى ما عليه، ويرجع ثانية للثكنات، تاركًا الحكم لأُولِى الأمر، مما أضفى للثورة مصداقية وحقق لها النجاح عند قطاع عريض من طوائف الشعب المصري. ليشكل محمد نجيب فى 7 سبتمبر 1952، أول حكومة للثورة، قبل أن يعلن فى 18يونيو 1953، تحول مصر لنظام جمهوري، وليصبح هو أول مصرى يتولى حكم البلاد فى تاريخها الحديث وتولى رئاسة الجمهورية، إلى جانب رئاسته الوزراء. لكن نجيب لم يستمر فى منصبه سوى شهور، بعد أن قرر مجلس قيادة الثورة فى فبراير 1954م، عزله من رئاسة الجمهورية، لأول مرة مما أثار سلاح الفرسان وبقية الجيش وطالبوا بعودته، فعاد ثانية بعد أسبوع من عزله. وفى 17 إبريل من العام ذاته، تولى جمال عبد الناصر رئاسة مجلس الوزراء، واقتصر محمد نجيب على رئاسة الجمهورية، حتى وقعت حادثة المنشية المزعومة، عندما ادعت قيادة الثورة تعرُّض عبد الناصر لمحاولة اغتيال، على يد أحد أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين"، وهو يخطب فى ميدان المنشية بالإسكندرية، فى 26 أكتوبر 1954. فقد زعمت التحقيقات، أن نجيب كان على اتصال بالإخوان، وأنه كان معتزمًا تأييدهم إذا ما نجحوا فى قلب نظام الحكم، ليقرر مجلس قيادة الثورة فى 14 نوفمبر 1954م، إعفاء محمد نجيب من جميع مناصبه. وتم وضعه تحت الإقامة الجبرية دون أى تهمة، فى قصر مهجور فى ضاحية المرج المنعزلة وقتها، مع منعه تمامًا من الخروج أو مقابلة أى شخص من خارج أسرته، حتى إنه ظل لسنوات عديدة يغسل ملابسه بنفسه، حتى سمح له بخادم عجوز يرعاه. ولم يجد أول رئيس جمهورية مصري، من سلوى إلا تربية القطط والكلاب، طيلة 30عامًا هى فترة إقامته الجبرية، فقد ظل حبيسًا فى مكان إقامته حتى عام 1982، إلى أن نقل إلى شقة أكثر سعة لحين وفاته فى 28 أغسطس 1984. يقول الكاتب عادل حمودة، إن كشف حساب محمد نجيب فى البنك بعد أقل من شهرين على إقالته يكشف أن رصيده لم يزد عن 899 جنيهًا وبضعة مليمات. وكانت ميزانية بيته فى شهر إبريل عام 1957، تؤكد أنه كان ينفق 120جنيهًا بخلاف مصاريف تعليم أولاده ونفقات علاجه وعلاج زوجته، وكان ذلك كله أكبر من معاشه الذى كان لا يزيد على 183 جنيهًا. وكان راتبه وهو رئيس جمهورية فى حدود 6 آلاف جنيه، وقد تنازل عن نصفه فى خطاب وجهه إلى وزير المالية.. كما سبق أن تنازل عن رتبة الفريق - وهى رتبة منحته راتب وزير - وقد صدر بها أمر ملكى من مجلس الوصاية على العرش بعد الثورة مباشرة، يوم 24 يوليو 1952. ولأنه تنازل عن نصف راتبه فقد انخفض معاشه إلى النصف، وكان هذا المعاش هو كل دخله تقريبًا، وقد زاد معاشه 100 جنيه بعد قرار الرئيس أنور السادات بإلغاء قرار تحديد إقامته عام 1971. وقد دفعته الضائقة المالية، إلى أن يكتب إلى وزير المالية، طالبًا منه استبدال جزء من معاشه، مثله مثل صغار الموظفين فى مصر. الانتقام من أبنائه ودفع أسرة نجيب، ثمن غضب رجال الثورة عليه، إلى حد مثير للحزن والأسى، فبعد تحديد إقامته بعامين، عاد ابنه الأكبر فاروق من المدرسة ليسأله والدموع فى عينيه: "أبى ألم تكن فى يوم من الأيام رئيسًا للجمهورية؟".. وتعجب نجيب لكنه ابتسم وداعبه وقال له: "نعم يا بني.. لكن لماذا تسأل هذا السؤال؟.. هذا تاريخ مضى وانقضى". وفوجئ نجيب بابنه وهو يقدم له كتابًا مدرسيًا قائلاً: "إن كتاب التاريخ الذى وزعوه علينا اليوم فيه أن جمال عبد الناصر هو أول رئيس جمهورية.. لقد شطبوا اسمك من التاريخ.. وتعاملوا معك كأنك لم توجد.. ولم تولد.. تعاملوا معك كأنك كذبة أو خرافة أو شائعة". وحاول نجيب، تفسير ما حدث، لكن ابنه دخل فى أزمة نفسية حادة جعلته لا يقدر على مواصلة دراسته فى مصر، وسافر إلى ألمانيا ليحصل على شهادة جامعية من هناك، لكن نفسية الابن تحطمت تمامًا بسبب الظروف التى أحاطت بوالده، فلم يفلح فى الحصول على الشهادة التى سافر لأجلها إلى الخارج. وبعد عودته إلى القاهرة، غرق "فاروق" – الذى كان والده يصفه فى إحدى خطاباته بالاستقامة والتدين - فى الخمر، التى ألقت عليه بمصائب لم يحتملها، فقد اتهم بمعاداة النظام، بعد أن افتعل معه أحد أفراد الشرطة مشاجرة، إثر خروجه من أحد البارات. ليزَجَّ به فى السجن ويبقى فيه خمسة شهور ونصف الشهر، تعرض خلالها لأقسى ألوان التعذيب النفسى والجسدي، ثم خرج ليموت بعد شهور كمدًا وقهرًا، إثر إصابته بأزمة قلبية، وكان ذلك فى عام 1969. ليلحق فاروق أخيه الأوسط علي، الذى يصر محمد نجيب أنه قتل فى ألمانيا فى عام 1968، إذ كان يقوم أثناء دراسته بألمانيا، بنشاط مهم فى الدفاع عن القضية العربية وعن مصر ضد من يهاجمونها، وكان له نشاط واسع ضد اليهود فى جامعته، وكان يقيم المؤتمرات السياسية التى يدافع فيها عن بلاده وثورتها وحق الفلسطينيين فى العودة إلى بلادهم. وينقل عادل حمودة عن نجيب قوله: إن هذا النشاط لم يكن يعجب رجال صلاح نصر (رئيس المخابرات المصرية الأسبق)، إذ اعتبروا ما يفعل إحياء لذكرى أبيه.. وفى ليلة ما كان يوصل أحد زملائه بعد أن انتهيا من استذكار دروسهما فإذا بسيارة جيب بها ثلاثة رجال وامرأة تهجم عليه وتحاول قتله. وعندما هرب اندفعت السيارة وراءه حتى حشرته بينها وبين حائط، ونزل الرجال الثلاثة من السيارة وأشبعوه ضربًا حتى خارت قواه ونزف حتى الموت، ورشوا عليه زجاجات نبيذ حتى لا يقترب أحد منه وينقذه.. كأنه يرقد من كثافة الخمر لا شدة الضرب.. وتمدد "على" غارقًا فى دمائه على الأرض دون أن يفكر أحد فى إنقاذه.. ونقل جثمانه بالطائرة إلى القاهرة، ومُنع الأب رغم توسلاته من استقبال نعش ابنه أو الصلاة عليه!! ولم يتبق له من الدنيا سوى ابنه الأصغر يوسف، الذى تعثر فى دراسته، وحصل على دبلوم أحد معاهد اللاسلكى الخاص، ثم التحق للعمل بالحكومة فى شركة النصر للإلكترونيات، لكنه تم فصله من عمله بقرار رئاسي، بعد أن تشاجر مع أحد أقارب شمس بدران (أحد رجال المخابرات فى عهد عبد الناصر)، ولم يجد أمامه إلا أن يعمل سائقًا للتاكسى على سيارة أرياف بالنفر من أجل أن يعيش. وقد اشتكى ابن نجيب من ظروف وقسوة الحياة مرارًا، لدرجة أنه وجد صعوبة فى الحصول على شقة مثل ملايين المصريين، بعد أن وجد نفسه مطرودًا من الفيلا التى كان يقيم بها مع والده، وهو ما جعل الرئيس الأسبق حسنى مبارك يأمر بتخصيص منزل له فى حى كوبرى القبة. لكن يوسف توفى وترك أسرة تعانى من شظف العيش، وتشكو مرارة الحياة وقسوتها بعد وفاة عائلها، الأمر الذى دفع نجله محمد، إلى أن يرسل رسالة إلى مبارك – عبر صحيفة "الكرامة" قبل سنوات – يطلب فيها السماح له بإقامة "كشك" لبيع السجائر، أو الحصول على إعانة حكومية تساعده فى إقامة مشروع صغير، ليقتات منه هو وأخوته وأمه المسنة، خاصة وأنه كان لا يزال يدرس فى إحدى كليات جامعة بورسعيد، وليس له دخل سوى معاش والده. ذكريات مؤلمة فى مارس 1984 تغير حال محمد نجيب, بعد أن خرج من عزلته الإجبارية فى أيام السادات، التى كان عبد الناصر قد فرضها عليه فى المرج، وخصص له الرئيس حسنى مبارك سكنًا فى شارع ولى العهد بالقبة ليقضى فيه بقية عمره. وفى حوار صحفى له وقتذاك، تمنى عودة "الوفد" إلى الحياة السياسية، لأن "ذلك خير وبركة لأنى أحب الوفد وياما دافعت عن النحاس". وأكد أن جمال عبد الناصر قدّم كشفا بأسماء بعض الزعماء السياسيين وكان من بينهم النحاس باشا لتحديد إقامته، فرفضت ذلك ووافقنى المجلس بعد معارضة شديدة، وشطب اسمه من كشف المعتقلين ووقعت الكشف، ولكن فوجئت بأنهم أعادوا اسمه للكشف بعد توقيعى عليه، واعتبرت ذلك تزويرًا لا أقبله وإساءة لا تغتفر. مؤامرة وفى كتابه "كلمتى للتاريخ"، شرح رفضه لاستخدام القوات المسلحة فى الصراع، رغم أنه كان بمقدوره ذلك بسهولة، حيث جاءته معلومات جديدة تؤكد أن اتفاقًا قد تم بين الأمريكان وبعض أعضاء مجلس الثورة على هذه المؤامرة، وأن قوات الاحتلال البريطانى وضعت فى حالة استعداد مسلح على طريق السويس- القاهرة لاحتلال القاهرة فى حالة وقوع اشتباكات، فرفضت تحريك قوات عسكرية، أو اعتقال أعضاء مجلس الثورة بعملية قد تعرض حياتهم للخطر، أو استقلال مصر للضياع. وأضاف: لو كنت أعلم ما سيفعله عبد الناصر بعد استيلائه على الحكم، أننى يقينًا ما ترددت فى إكمال الصراع إلى نهايته لأنه "ودا البلد فى داهية، بل فى ستين داهية". وأشار إلى جملة من انتهاكاته لحقوق الإنسان وكرامته وهزائمه العسكرية، وإفلاس مالى وأخلاقي، لافتًا إلى أن الانحرافات بدأت قبل تنازله عن السلطة، حيث أكد فى كتابه: كانت تصرفات بعض الضباط الذين انطلقوا فى أنحاء المجتمع مندوبين للقيادة أو ممثلين لهيئة التحرير قد أساءت للثورة ، ولوّثت ثوبها ببقع سوداء شائنة. وتابع، أن أحد الضباط خسر على مائدة الميسر فى المحلات العامة والخاصة عدة مئات من الجنيهات فى ليلة واحدة. أسرار عن ضباط يوليو وأوضح نجيب، أنه ذهب مرة لزيارة أحد أعضاء مجلس القيادة فى منزله فوجدت فنانًا يصنع له تمثالاً يتكلف 200 جنيه، وكنت أعرف حالته المالية لا تسمح بذلك، فعنفته وخرجت غاضبًا. كما لاحظت فى إحدى المرات ونحن نقبل على تناول العشاء فى مجلس القيادة، أن بعض أدوات المائدة كانت من الفضة ومكتوب عليها "القصور الملكية" وثرت ثورة عنيفة، وأبعدت الضابط الإدارى المسئول عن ذلك، وأمرت بإعادة هذه الأدوات إلى القصور الملكية. كما كشف عن مفاجأة فى كتابه لم يكن يتوقعها، أننى كنت متجهًا فى عربتى إلى نادى الضباط بالزمالك لتهنئتهم بعيد الأضحي، وكان معى البكباشى جمال عبد الناصر واقترب منى – قبل أن يصبح نائبًا لرئيس الوزراء- وقال لي: أود أن أعرض عليك أمرًا ناقشته مع بعض الزملاء، حيث إن ظروفنا الحالية تقتضى أن ننظر إلى مستقبلنا ومستقبل حركتنا ونحن الآن تحيط بنا عواصف مضادة لا نعرف مصيرها، لذا فكرت أن يأخذ كل عضو من أعضاء المجلس مبلغ 10 آلاف جنيه وتأخذ أنت 14 ألفًا فيكون المجموع 134 ألفًا، وقد طلبت بحجزهم لنا نقودًا جديدة. يقول محمد نجيب: فرأيت الدم يغلى فى رأسى ولم أتحمل أعصابى وصرخت فيه وعنفته تعنيفًا شديدًا على ما استباحه لنفسه من مال الشعب. وتابع، أن رد عبد الناصر كان بضحكة عصبية وهو يرد متلعثما: أنا كنت متأكد إنك هترد بالشكل ده. وأشار، إلى أن ذلك أعطانى مؤشرًا على اتجاه جديد فى سلوك الزملاء، أقول مع الأسف إنى ما توقعته ولا تخيلته. وعن رأيه فى السادات قال: رجل عظيم يكفى أنه أزاح كابوس الديكتاتورية الذى جثم على صدورنا منذ 1954، أطلق الحريات، وأعاد سيادة القانون وأصلح الكثير من أخطاء عبد الناصر وأعاد سيناء مرة أخرى. وأوضح، أنه كان أرحم من عبد الناصر، بكثير ويكفيه فخرًا حرب أكتوبر وفى عهده تم وقف التعذيب، وإذا كانت هناك أخطاء له فحسناته ترجح سيئاته، وفى النهاية كل حاكم بشر، له أخطاء وحسنات، المهم التفكير فى مصلحة مصر، وليس فى دعم الحكم المطلق. فيما وصف الرئيس المخلوع مبارك، بأنه يذكرنى بشبابى وأنا أحبه، إنه يحترم سيادة القانون وأحكام القضاء، بعيدًا عن الأنانية والمطامع الشخصية وحب الزعامة، واختتم حواره بأنه لا حل ولا سبيل غير الديمقراطية ولا شيء غيرها.