مع نسمات صباح 23 يوليو في تمام السابعة والنصف صباحًا، استيقظت مصر على تحول جذري من مملكة إلى جمهورية عربية، وبدلاً من صوت أغاني الصباح، فتحت مصر عينيها على صوت مصري ترعرعت حروفه من صعيدها، وبكلمات واثقة ألقى البيان الأول للثورة التي أنهت مرحلة فريدة في حياة مصر، وحتى اليوم وبعد 64 عامًا يحتفي بها المصريون، وتبقى مصيبة لدى البعض وفائدة كبيرة لدى البعض الآخر. «اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش، وقد تسبب المرتشون والمغرضون فى هزيمتنا فى حرب فلسطين، وأما فترة ما بعد هذه الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد، وتآمر الخونة على الجيش، وتولى أمره إما جاهل أو فاسد، حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها، وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا، وتولى أمرنا فى داخل الجيش رجال نثق فى قدرتهم وفى خلقهم وفى وطنيتهم»، بهذه الكلمات أعلن قيام الثورة، وكان هذا البيان الأول لها الذى ألقاه الرئيس الراحل محمد أنور السادات. وعلى مدار الأربعة وستين عامًا يبقى لدى الثورة دهاليزها التى مع كل عام يزيد فى عمر الاحتفال بها، يظهر الكثير عنها، فأسباب قيام الثورة عديدة من أبرزها هزيمة حرب فلسطين تلك هى الصخرة التى تحطم عليها الكيان الملكى فى نظر الجيش، فبعد الهزيمة فارت دماء الضباط تجاه الملك الذين رأوا فيه أنه هو سبب الرئيسي، سواء بالقيادات الفاشلة التى تجهل أساليب الحرب، أو بقلة الإمداد والتموين أو بالأسلحة الفاسدة. وقبيل الثورة بثلاثة أعوام بدأت التحركات السرية فى سبيل الخلاص، وبدء تكون تنظيمات سرية فى الجيش وتكونت الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار فى سبتمبر 1949م برئاسة البكباشى جمال عبد الناصر -آنذاك- واعتمدت التنظيمات على المنشورات، وبدأت المحاولات المميتة للبوليس السرى فى معرفة أسماء الضباط الذين يقفون وراء هذا التنظيم، ولكنها باءت بالفشل. فمنها بدأت معركة كبرى بين الملك وقادة الجيش الموالين له من ناحية والضباط الأحرار من ناحية أخرى فى انتخابات نادى الضباط فى أواخر عام 1951. فكان مرشح الملك لرئاسة مجلس إدارة النادى حسين سرى عامر والذي أذيع أنه صاحب السمعة السيئة، وينافسه على المنصب مرشح الضباط الأحرار محمد نجيب والذى عُرفت عنه السمعة الطيبة. وفور علم الملك فاروق بالاتجاه السائد قرر تأجيل الانتخابات التى كان مقررا إقامتها فى 31 ديسمبر 1951، وعندما أقيمت الانتخابات فاز فيها محمد نجيب، وتوالت التضييقات ومحاولات معرفة أساس تنظيم الضباط الأحرار حتى توصل لبعض أسماء الضباط، ما اضطر إلى تبكير ميعاد الثورة ليكون يوم 23 يوليو 1952. فى مساء 22 يوليو 1952 أقام الملك فاروق حفلاً ساهراً فى قصر المنتزه بالإسكندرية احتفالاً بإسماعيل شرين زوج أخته الذى تولى وزارة الحربية والبحرية، ما أبقى الملك مطمئناً أن وزارة نجيب الهلالى ستعيد الاستقرار للبلاد، وأثناء الحفل دخل الشماشرجى محمد حسن، ليبلغ الملك أن الضباط الأحرار استولوا على مقر قيادة الجيش فى القاهرة. نجح الضباط الأحرار فى دخول مقر قيادة الجيش فى القاهرة فى مساء يوم 22 يوليو، وتولى الإخوان المسلمون مسئولية حماية الأماكن العامة وطرق القناة حيث تتمركز القوات البريطانية وقامت كردونات الجيش الموالية للضباط الأحرار بمحاصرة قصر المنتزه حيث يتواجد الملك ولكنها لم تحاول دخوله. بعد الاستيلاء على مقر قيادة الجيش، كانت خطة الضباط تقضى بإذاعة بيان الضباط فى الإذاعة المصرية صباح يوم 23 يوليو، وألقى أنور السادات بيان الضباط فى الإذاعة فى السابعة والنصف صباحاً باسم محمد نجيب الذى أعلن نفسه قائداً عاماً للقوات المسلحة. شدد الضباط الأحرار فى ذلك الوقت على عدم التعرض للملك ومحاولة طمأنته، حيث لم يتعرض البيان للملك فاروق بل تحدث عن الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم وهزيمة فلسطين، وأوضح دور الجيش وأهدافه، وطالب بالتزام الهدوء والسكينة، وطمأن الأجانب على أرواحهم ومصالحهم. وخوفًا من تدخل القوات البريطانية، وتحسبًا لمواقفهم السابقة، تعمد الضباط توصيل رسائل إلى القائم بالأعمال البريطاني والسفير الأمريكي تفيد بأن هذه حركة داخلية فى الجيش تهدف إلى تطهير الجيش من الفساد، وأن الضباط يتعهدون بضمان أمن وسلامة الرعايا الأجانب. ومن هنا بدأت تتوالى نجاحات خططهم، حيث وقع اختيار الضباط الأحرار على علي ماهر باشا ليكون رئيس الوزراء الجديد بدلاً من نجيب الهلالي، لطمأنة الملك ولعلاقته الطيبة بمحمد نجيب، وتولى على ماهر إرسال كل مطالب الضباط للملك. انتقل الضباط الأحرار بعد ذلك لتنفيذ المرحلة الأخيرة من خطتهم وهى عزل فاروق وتولية نجله أحمد فؤاد تحت مجلس وصاية، وكان فاروق قد انتقل بأسرته وحاشيته إلى قصر رأس التين وهناك ترسو «المحروسة» حيث إذا استدعى الأمر غادر البلاد. ويوم 25 يوليو، كان موعد وضع خطة عزل فاروق، كان محمد نجيب وأنور السادات ويوسف صديق يعارضون استخدام العنف، وأرسلوا جمال سالم إلى القاهرة لاستطلاع رأى جمال عبد الناصر فرد عليهم «ليذهب فاروق إلى المنفي، ويُترك للتاريخ الحكم عليه». ومع صباح يوم 26 يوليو، تحولت الإسكندرية إلى ثكنة عسكرية، حيث حاصر الجيش القصور الملكية رأس التين والمنتزه وحوصرت جويًا بالطائرات وصوبت المدافع تجاه رأس التين، وأرسل الضباط لعلى ماهر إنذار الجيش للملك والذى يقضى بتنازله عن العرش لابنه ومغادرة مصر قبل السادسة من مساء اليوم. ولوطنية الملك لم يرفض الطلب خوفًا من إراقة الدماء، وطلب الخروج من مصر بحراً على يخته المحروسة، وغادر الملك قصر رأس التين وعزفت الموسيقى السلام الوطني، وحلقت أربع طائرات نفاثة مشاركة فى التحية، وأطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة، وأدى حرس الشرف التحية العسكرية، وصافح فاروق على ماهر الذى فاضت عيناه بالدموع فهو الذى رافق الملك منذ قدومه من إيطاليا لتولى حكم مصر سنة 1936. حضر محمد نجيب متأخراً، واستقل زورقاً ليصل إلى يخت المحروسة، وأدى التحية العسكرية للملك السابق، وكان بصحبته أحمد شوقى وجمال سالم وحسين الشافعى وإسماعيل فريد، استمر اللقاء الصعب ثلث الساعة وقال الملك لمحمد نجيب أن مهمته صعبة للغاية لأنه ليس من السهل حكم مصر. غادرت المحروسة مع اختفاء شمس ذلك اليوم وغادرت معها ذكريات أعوام عديدة لمصر كمملكة، وغادر فاروق مصر الأول والأخير بعد أن استمر حكمه من 29 يوليو 1937 إلى 26 يوليو 1952 أي قرابة 15 عامًا، كان شهر توليه هو شهر رحيله. أصحاب الأمس أعداء الغد وما أن قامت الثورة وتم نجحاها إلا أن بعد فترة ليست ببعيدة أنلقب الموازين، فلقد تم استبعاد اللواء محمد نجيب، وانقلب عبد الناصر بعد توليه بفترة على الأمريكان، وحتى على الإخوان المسلمين. فأصبحت لدى الإخوان ما هى إلا انقلاب عسكري، وهى سبب خسارة الملك عرشه، وسبب تجاهل محمد نجيب الذي وضع كرئيس صوري لمصر.