لا يكاد يمر يوم عليّ، إلا وأسترجع من الماضى صورة مشوشة، غير واضحة، لديكور محكمة هزلية، وقفص حديدي، يقف خلفه الفنان الراحل حسن عابدين، وبجواره الفنانة سهير البابلي، وهو يلوح بذراعيه، في محاولة يائسة منه للدفاع عن نفسه، يصرخ في حدة واستنكار قائلًا: "من المسئول عن جنودنا اللي راحوا في حرب اليمن"!! انتهى المشهد الفني، وانتهى معه صوت الضحكات والقهقهة من جانب أهلي، ليبدأ معه مشهد آخر في حياتي، عندما توجهت لهم عسى أن أفهم ما المقصود بما يقال وما المقصود بحرب اليمن، فوجدت الحزن والحسرة كست وجوههم، وكطفلة لا تفقه شيئًا في ذلك الوقت، فقد آثرت الصمت، والعودة مرة أخرى خائبة لمشاهدة التلفاز، أو بالأدق "الفيديو".. فإلى الآن لم تعرض مسرحية "ع الرصيف" على تليفزيوننا المصري!! نعم كان المشهد الفني لمسرحية "ع الرصيف" التي تعد واحدة من أهم مسرحيات الكوميديا السياسية الصريحة، غير استخدامها لبعض الإسقاطات الاجتماعية والأخلاقية، التي طرأت على مجتمعنا المصري، إبان فترة الستينيات وما بعدها. وجد استفهامي عن حرب اليمن ضالته، من خلال حكايات جدي رحمه الله، فقد كان يذكر دائمًا "عبد الرحمن" ابن جاره وصديقه، ذلك الشاب الوديع والمسالم، دمث الخلق، والمحب للجميع، الذي تخرج في الكلية الحربية، قبل موعد التخرج الرسمي بعام تقريبًا، لحاجة الجيش للرجال والمحاربين وقتها!
كان عبد الرحمن من تلك الدفعة التي سافرت لأرض لم تطأها أقدامهم من قبل، ولمحاربة عدو لا يعرفون عنه شيئًا.. حرب بلا هدف.. بلا مبدأ.. بلا قناعة وإيمان.. ولكنها الأوامر!!
فقد ذكر الرئيس الراحل أنور السادات في مذكراته، أن قرار الحرب كان قرارًا سياسيًا منه، وتلبية لطلب الثوار أنصار النظام الجمهوري، ونجدتهم من الإمام البدر وحلفائه "السعودية وبريطانيا".. لم يكن الهدف من خوضها واضحًا، فكانت أشبه بحرب أهلية، بين حكم ملكي وبين ثوار يريدون إلغاءه، وربما أرادت مصر بها عودة الزعامة التي فقدتها قبلها بعام بعد الانفصال عن سوريا عام 1961.. وكما كان القرار سياسيًا من السادات، كانت المسئولية العسكرية بيد المشير عبد الحكيم عامر الذي فشل فشلًا ذريعًا، فلم يكن جيشنا النظامي متمرسًا على حرب العصابات، التي يجيدها اليمنيون.. كانت حرب اليمن من الأسباب المباشرة التي أدت إلى هزيمة يونيو 67، وكما قال الكاتب الراحل حسنين هيكل، وأيضًا اللواء جمال حماد وغيرهم من المؤرخين، إن الاعتمادات التي خُصصت للحرب كانت سخية للغاية، رصيد هائل من العملات الصعبة، غير الذهب والأسلحة، والأهم آلاف الجنود والضباط وخيرة الشباب المصري.. مثل عبد الرحمن الذي حكي جدي أيامه الأخيرة، وكيف أنه قضاها في الشارع، ولم يترك أحدًا مارًا كان أو جالسًا، إلا وألقى عليه التحية والسلام، وكاد أن يطرق أبواب البيوت، ليسلم على ساكنيها، وكأنه كان يعلم أنه اللقاء الأخير له مع الأهل والجيران، وأن كل من قابله وصافحه، سيحرم حتى من إلقاء نظرة الوداع على جثمانه، أو حتى السير في جنازته وأخذ عزائه، فقد ضنت عليه حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، بالعودة ولو حتى برفاته! هو وكل أبطال دفعته!
دارت رحى الحرب لسنوات حتى انتهت، ولم يعد فلذة كبدها، ووحيدها، وبرغم هذا فقد ظلت "أم عبد الرحمن" محتفظة بأشيائه، فهو في مخيلتها سوف يعود.. حتمًا سيعود.. ولكنه لم يفعل، وظلت متمسكة بالأمل، حتى فارقت الحياة ولحقت به! وهنا فاضت عين جدي بالبكاء، وكأنه يروى الحكاية لأول مرة، وفاضت معها عيني.. أمثال عبد الرحمن كثيرون، ضحوا بكل غالٍ ولم يسألوا عن المقابل، ولو عاد بهم الزمن وعادوا للحياة، لاختاروا نفس المصير.. عكس كثير من شبابنا هذه الأيام خاصةً من أطلقوا على أنفسهم "شباب الثورة"، الذين عايرونا وأذلونا بلهجة التكبر والاستعلاء، فلولاهم ما انتهينا من حكم آل مبارك ولولاهم ما قامت ثورة، والذين لم يقدموا لمصر سوى الهتافات والجلوس أمام شاشة الكمبيوتر فيما يعرف "بمجاهدي الكيبورد"!! مرت الأيام وخاضت مصر حربًا أخرى، ولكن على أرضها وكانت هزيمة 67، ولكن تلك المرة، كانت الحرب أكثر حياءً، مع رجالنا في ساحة المعركة، على الأقل كان عدوهم معروفًا لديهم، وكانت مصر وترابها مقبرتهم.
وكأن القدر أراد أن يمن على المصريين بالفرح والفرج وبعد طول انتظار وسنوات عجاف كالحة، فكان نصر أكتوبر، ولأننا في رمضان، فسأقول: "نصر رمضان" ذلك الشعب الطيب، الذي لم يجد من يحنو عليه حقًا في تلك الفترة سوى "الله"، وكان يستحق هذا، فكان على قلب رجل واحد، حتى النوبيين الذين تم تهجيرهم قسرًا من ممتلكاتهم، ولم يتم تعويضهم بالشكل المناسب، قد قدموا الدعم المعنوي، باستخدام لغتهم المميزة على الحدود، هذه اللغة التي يجهلها عامة المصريين، فما البال بالعدو الصهيوني؟! وقدموا لأجلها الجنود والذين قدر عددهم حوالي 70 جنديًا، لإرسال واستقبال الأوامر العسكرية، فكانت من شفرات النصر، التي تم الكشف عنها مؤخرًا. وأخيرًا.. لم أجد أفضل من كلمات الكاتب الراحل جلال عامر لأنهى بها حديثي عندما قال: "لا ناصر ولا السادات ولا مبارك.. الجندى المجهول الذى لا نعرف قبره هو بطل الحرب والمواطن البسيط الذى لا نعرف بيته هو بطل السلام".
رحم الله مصر ورحم جميع شهدائنا، كانوا رجالًا وكانوا أبطالًا.