من الجميل في لغتنا العربية بلاغتها، ومن الجميل في تلك البلاغة (التشخيص أو التجسيد أو الأنسنة)، وهي بمعنى أن تجعل من المعنويات أو الجمادات إنسانًا تخاطبه أو تضفي عليه سمات البشر من كلام ومشاعر وغيرها.. وهذا يعكس رقّة العربي ورهافة إحساسه بالكون والحياة والمجردات من حوله.. وكم في الشعر العربي من خطاب إلى الجبال أو الوديان أو الديار، وكم من شاعر جعل من (الأمس) أو (اليوم)أو (الغد) إنسانًا يحدّثه ويبثه مشاعره، وقد يكرهه ولا يرحب بقدومه عليه، كما يقول النابغة الذبياني موجهًا كلامه إلى (غَدٍ): لَا مَرْحَبًا بِغَدٍ وَلَا أهْلًا بِهِ ** إنْ كَانَ تَفْرِيقُ الأحَبَّةِ فِي غَدِ إن الشاعر نظر إلى (غَدٍ) باعتباره شخصًا يحتفل بقدومه، أو لا يرحب به، حسب ما يحمله إليه ذلك الشخص من مسرات أو منكدات. وفي النصوص الدينية الكثير من هذه البلاغة اللطيفة.. إلى الحد الذي يجعل من جبل أحد إنسانًا له مشاعر، يحبُّ المسلمين ويحبُّه المسلمون؛ ففيما رواه البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنهما- أنه قال: "خرَجتُ معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى خَيبَرَ أخدِمُه، فلما قدِم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم راجعًا وبَدا له أُحُدٌ ، قال: (هذا جبلٌ يُحِبُّنا ونُحِبُّه)..". ومن هذا المنطلق تعاملت الأجيال المسلمة مع شهر رمضان الكريم؛ هكذا وسموه بالكرم، وجرى ذلك على الألسنة، وغالبًا ما يوسم بذلك الرجال، لقد رأى المسلمون صغارًا وكبارًا ذلك الشهرَ شيخًا وقورًا، يحلُّ ضيفًا عليهم لشهرٍ كُلَّ عام، يستطلعون هلاله استطلاع بشرى القادم من سفرِ عامٍ أمضاه سيرًا في الصحراء.. فتضيء جبهته ليلًا في ضوء هلاله. وقد اعتاد أطفال المسلمين في بعض البلدان تزيين شوارعهم وبيوتهم احتفالًا بقدوم هذا الضيف (رمضان)؛ تعبيرًا عن فرحتهم بإطلالته عليهم.. وإنّك لَتَعْجَبُ من حرص الأطفال وما يبذلونه من جهدٍ في سبيل إتمام مظاهر البهجة بقدومه.. ولمَ لا..؟ وقد ورد في الأثر أن الجنة ذاتها -على ما أنعم الله به عليها من الزينة- والحور العين –على ما خلقهن الله عليهمن الجمال- تتزين لرمضان، فقد أوْرَدَ الطبرانبي: "إنَّ الجنَّةَ لَتَزَّيَّنُ مِن السَّنةِ إلى السَّنةِ لشهرِ رمَضانَ، وإنَّ الحُورَ العِينَ لَتتزيَّنُ مِن السَّنةِ إلى السَّنةِ لشهرِ رمَضانَ، فإذا دخَل شهرُ رمَضانَ قالتِ الجنَّةُ: اللَّهُمَّ اجعَلْ لنا في هذا الشَّهرِ مِن عبادِكَ سُكَّنًا. وتقولُ الحُورُ العِينُ: اللَّهُمَّ اجعَلْ لنا في هذا الشَّهرِ مِن عبادِكَ أزواجًا..". لقد تخيَّل المسلمون رمضان بل الصيام ذاته أنيسًا ورفيقًا لهم، يأنسون به وينعمون بقربه شهرًا من الزّمان، يستقبلونه في بدايته، ويرافقونه خلاله، ثم يودعونه بالدموع في آخره، وهم في كل الأوقات فرحون بجواره والعيش في رحابه، ولمَ لا يتمسّحون ببركاته..؟ وقد أخبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذا الضيف العزيز سيدافع عنهم يوم القيامة، ويشفع لهم في موقف عصيب؛ ففي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "الصيامُ والقرآنُ يَشفعانِ للعبدِ يومَ القيامَةِ، يقولُ الصيامُ: أي ربِّ إِنَّي منعْتُهُ الطعامَ والشهواتِ بالنهارِ فشفِّعْنِي فيه، يقولُ القرآنُ ربِّ منعتُهُ النومَ بالليلِ فشفعني فيه، فيَشْفَعانِ". تأمَّل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الصيام.." وكأنه سيأتي في صورة ذلك الشيخ المهيب مخاطبًا المولى عزَّ وجل.. كيف إذًا لا نستَقْبِلُه استقبالَ الضيوف ونزين له الشوارع والبيوت والنّفُوس..؟! وما أجملَ الصيامَ والقيامَ وتلاوةَ القرآنِ زينةً للنفوس المسلمة المؤمنة المطمئنة برفقة رمضان. وعندما التفتَ الشاعر (ياسر أنور)إلى شهر رمضان،رآهشيخًا وقورًا؛ فقال في بداية قصيدة له مخاطبًا إيّاه: سَيِّدِي، سَيِّدَ الهُدَى وَالفَضِيلَةْ**مُثْخَنٌ وَقْتِي بِالحَكَايَا الطَّوِيلَةْ ثم قالَ: عَرّفَتْنِي أُمِّي عَلَيْكَ، وَقَالَتْ: **"رَمَضَانُ" الكَرِيمُ شَيْخُ الفَضِيلَةْ تَارَةً تَبْدُو فِي خَيَالِي عَجُوزًا** أوْ حِصَانًا سَمِعْتُ مِنْهُ صَهِيلَهْ كُنْتُ طِفْلًا وَالبَابُ يَسْهَرُ مِثْلِي **وَالمَصَابِيحُ تَشْتَهِي تَقْبِيلَهْ فِي انْتِظَارٍ لِخُطْوَةٍ مِنْهُ تَدْنُو **تُوقِظُ اللَّيْلَ وَالوِسَادَ الكَلِيلَةْ وما أجمل خطابَه لرمضان (الشَّيْخ) طالبًا منه أن يُعِيرَ كُلَّمُسْلِمٍ مندِيلًا من الإيمان والتقوى، يمسح عن القلبِ دموعَه، وعن النفس أحزانها: سَيِّدِي الشَّيْخَ، فِي البِلَادِ دُمُوعٌ**فَأعِرْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْدِيلَهْ