قرأنا فى جريدة الأهرام اليومية المصرية خلال هذا الشهر (يونيو 2010) الحوار الذى دار بين نقيب الصحفيين ورئيس تحرير جريدة الأهرام، هما بالطبع على قمة النخبة المصرية، إلا أن هذا الحوار كشف عن القصور فى تفكير هذه النخبة، المتحكمة فكريا فى تشكيل الرأى العام، والتأثير على عقل الحكام، أحدهما كتب فى نهاية مقاله (الأهرام 7 يونيو 2010 ص 11) يقول بالحرف الواحد: «بدون التحديد الدقيق لما نتكلم عنه فإن الحوار مهما كانت قامة المتحاورين فيه سوف يظل ناقصا وعاجزا عن التطور ومعالجة أسباب القصور فى الواقع والسياسات». هذا جزء من العجز المعرفى للنخبة المصرية، المأساة ليست فقط غياب الدقة أو عدم التحديد الدقيق لكتاباتهم وأفكارهم، بل أصل الداء هو: غياب الرؤية النقدية المبدعة لدى النخبة، خوفهم المزمن من تجاوز الخطوط الحمراء المفروضة فى كل عهد. بعد سقوط الملك الصالح قالوا عنه الملك الفاسد، بعد موت عبدالناصر القائد الأوحد عاد إليهم الوعى، بعد اغتيال السادات بطل السلام والانفتاح بدأوا يدركون الخديعة، فى العهد الحالى (عهد مبارك) يمسكون العصا من المنتصف، بين المدح العنيف والنقد الخفيف (ضرب الحبيب زى أكل الزبيب). كالوا المديح والتصفيق لباراك أوباما حين ألقى كلمته فى القاهرة، ثم اكتشفوا مؤخرا الخديعة. يخافون تكشيرة بسيطة من صاحب الأمر، الحرمان من بعض الراحة والنعيم، نصيبهم من السلطة والثروة كبير جدا بالنسبة للأغلبية الساحقة من الشعب، عدالة التوزيع لفائض النمو والتنمية، الشعار الفضفاض المرفوع من جماعات النخبة على اختلافاتهم: اشتراكيون رأسماليون ساداتيون ناصريون مباركيون ملكيون جمهوريون ديمقراطيون ديكتاتوريون وغيرهم. كشف الحوار بين المتحاورين عن الخلاف الطفيف بينهما، خلاف فى الظاهر أو الفروع وليس الأصول، خلاف حول آليات السباق فى المنافسة داخل السوق الحرة، ليس ازدواجية قوانين السوق الحرة وخداعها (حرية الأقوى للبطش بالأضعف)، حوافز النمو والتنمية فى ظل الخصخصة، (وليس فساد قوانين الخصخصة ذاتها)، الاحتكار والسيطرة على وسائل الإنتاج لموظفى الدولة (البيروقراطيين) أو للشركات والقطاع الخاص (وليس فساد واستبداد نظام الاحتكار ذاته)، توزيع الثروة والسلطة تتولاه الحكومة أو رجال الأعمال (وليس غياب العدالة ذاتها لدى الحكومة ورجال الأعمال)، المشكلة لديهم ليست فى قوانين النظام الرأسمالى المزدوجة غير العادلة، بل فى طريقة تطبيقها، النظرية صحيحة لكن التطبيق خاطئ. منذ أيام قليلة دعانى إلى العشاء مع أسرته صحفى مصرى، يحمل لقب المفكر الكبير، أرسل إلىَّ سيارته بالسائق بعد أن عرف عدم امتلاكى سائقا أو سيارة خاصة بى، حملتنى السيارة الفاخرة الشبح، من حى شبرا العتيق، عبر شوارع القاهرة القديمة، ساعة ونصف الساعة من الزمن، عبرنا عددا من العشوائيات وبيوت الصفيح، إلى بلد آخر يسمونه القاهرةالجديدة، جزء من مصر لم أسمع به، تم بناؤه خلال السنين القليلة الأخيرة. كأنما سافرت وراء البحار والمحيط إلى أحياء الأثرياء فى أمريكا، جزر من الخضرة الكثيفة وراء الصحراء والصخور العارية، الأشجار الباسقة، البحيرات والجداول تجرى بينها الأنهار، تلال مغطاة بالخضرة والزهور ولمبات النور، هواء نقى معبق بعطر الورد والياسمين، خال من التلوث والفيروسات، هدوء وسكون خال من ضجيج الميكروفونات، حى على الصلاة حى الفلاح، لا توقظ من النوم إلا الفقراء، لذكر الله وسماع تلاوة القرآن، أصابنى الصمم من شدة الضجيج فى حى شبرا، يتهموننى بالكفر لأننى لا أعشق زعيق المؤذنين من فوق المآذن. استعرض الصحفى الكبير أمامى ثراءه الضخم، دار بى فى أركان حديقة قصره الفسيحة، حظيرة الخيول العربية الأصيلة، الخدم والحشم ببشرتهم السوداء، جلبهم من وسط أفريقيا عند منبع النيل، قصور أخرى تحوطه مشيدة بالطريقة نفسها، لزوم الانسجام «الهارمونى»، يحوطها سور عال، تتسلقه أشجار الجهنمية بألوانها الزاهية، حمراء دم الغزال، وزرقاء وبيضاء وصفراء ذهبية، وقرمزية، وأرجوانية. شعرت لحظة بالحزن، شبه الندم، لو أننى نافقت الحكام، ولجأت إلى الصمت حين كان الكلام واجبا، لأصبح لى مثل هذا النعيم والهدوء الجميل، حين عدت إلى البيت، قالت «منى»: هذا الصحفى لا ينعم بالهدوء، ضميره يؤنبه طول الليل، ثمن الصدق كبير لكن ثمن النفاق أكبر، لا تندمى أبدا. نوال: لكل إنسان لحظات ضعف وشك، أنا أشك إذن أنا موجود، أحيانا أشك فى كل شىء، تبدو الحياة عبثية لا تعرف العدل. منى: الإنسان هو الكائن الوحيد الذى يعرف الشك، وهو الكائن الوحيد الذى يتحدى ضعفه، فينهض من جديد ويقاوم حتى الموت، هذا سر تقدم الحياة الإنسانية. نوال : كلماتك تعيد إلىّ قوتى، لكن المناخ فى بلادنا غير صحى، يقوم على مكافأة المنافقين معدومى الموهبة، وعقاب المبدعين والمبدعات. منى: لكن قراءة التاريخ تؤكد أن من يبقى فى ذاكرة الشعوب هم من حرقت كتبهم، من اتهموا بالكفر والزندقة، من عاشوا المنفى والسجن أو قطعت رؤوسهم، هل نعرف اسم ملك بريطانيا فى عصر فرجينيا وولف؟ أو اسم حاكم لبنان فى عصر مى زيادة؟ وهل سمعت هذه الأغنية؟ كتبها ولحنها كاتب وفنان مصرى، اسمه محمد فتوح، مات فى شبابه منذ عام واحد، بسبب فساد العلاج الطبى فى مصر، وموت ضمير الأطباء الكبار والمسؤولين: «حريتك هى بصمتك، شخصيتك شفرة وجودك بالمقاس، ماتخونهاش ماتبيعهاش لو بالدهب أو بالماس، ارفع راسك للسما ماتخافش حكم الناس، جنة من غير حرية لا تسوى ولا تنداس».