حينما نفاخر بإبداعات أجدادنا المصريين القدماء، تغيب عن أذهاننا حالة التكامل الذى وصل إليه المجتمع المصرى القديم فى تقنين العلاقة بين المرأة والرجل. فلم يكن مجتمع ذكورة أو أنوثة وإنما هو مجتمع أدرك منذ البداية أن المرأة نصف المجتمع، وأنها شريكة مع الرجل فى صنع الحياة. فقد حكمت البلاد وشاركت فى الحكم، وكانت تمتلك حق الوصاية على العرش، وشغلت عشرات الوظائف، ونالت تقديراً جليلاً فى أسرتها وفى مجتمعها، وقد ظهرت مع الرجل فى حياته بل بعد مماته، وتركت بصماتها فى كل جوانب الحياة، فهى المربية للأجيال والطبيبة والكاتبة والكاهنة، وهى التى تعبئ الجيوش وتقدم العون والإمدادات لرجال الجيش، وقد تحدث عنها الأدباء والحكماء وأوصوا الآباء والأزواج والأبناء بها خيراً. وكانت حقوقها المادية والمعنوية وافية، وكانت ترث، بل تتاجر وتشارك فى تدعيم اقتصاد مصر القديمة. وقد شيدت لها المقابر والمعابد، ونحتت لها التماثيل، وصورت فى كل مكان يتواجد فيه الرجل كشريك له، كما اهتمت بزيها وزينتها. وقد أدرك المجتمع الذى اختار للعدالة امرأة من بين الإلهات وهى «ماعت»، ولم نجد للعدالة رجلاً، واختار المجتمع للكتابة امرأة هى الإلهة «سشات» وحينما تكون للعدالة امرأة، وللكتابة امرأة، وللخير والتضحية امرأة «إيزيس»، وللحب والموسيقى امرأة هى «حتحور»، فهل كان لهذا المجتمع أن يتجاهل دور المرأة الذى لا يغفل فى مصر القديمة؟!، فإنها كانت مهيمنة على دور القضاء، وحملت لقبا مهماً هو sab «القاضى»، وقد كان لها الحق فى ذلك لأنها المرأة التى ائتمنوها على تربية أبنائهم ورعايتهم، وكذلك على المساهمة فى جميع جوانب الحياة الدينية والسياسية والقضائية، وعلى رأس هذه وتلك كانت على رأس الحياة الاجتماعية. ولنا أن نتساءل هل يمكن ألا تشارك المرأة فى القضاء، وفى إرساء العدالة والحق والنظام «ماعت»؟! وإذا كانت الأمثلة للسيدات اللاتى أصبحن قاضيات نادرة فإن أرض مصر لم تبح بكل أسرارها. ولدينا مثال للسيدات اللاتى حملن ألقاباً قضائية وهى السيدة «نبت» من الأسرة السادسة، وهى جدة الملك «بيبى الثانى» أحد ملوك هذه الأسرة، حيث عثر لها على لوحة فى أبيدوس، وردت عليها ألقابها فهى القاضية «ساب»، وهى الوزيرة «ثاتى» وهى الأميرة الوراثية وغيرها. ويبدو أن هذا اللقب هو الذى أشار إليه الكثير من الباحثين فى دراساتهم حيث جاء مساويا لنفس اللقب الذى حمله بعض القضاة من الرجال، ولو اطلعنا على ألقاب ووظائف المرأة، والتى نشرت فى مؤلفى الذى نلت به درجة الماجستير فى الآثار فى أواخر الستينيات من القرن الماضى، لأدركنا ما وصلت إليه المرأة فى المجتمع المصرى القديم، فقد وصلت إلى مكانة لم تصل إليها المرأة فى أى حضارة من حضارات العالم، كما أنها لم تحترم وتبجل فى أى مجتمع كما احترمت فى المجتمع المصرى القديم. وحيث إننى أتابع حركاتها ونشاطاتها فى كل المجتمعات القديمة، فإننى أجد أنه من واجبى أن أدافع عن حقوق المرأة فى وقتنا المعاصر، كما دافعت عنها فى الزمن القديم فى مواجهة الباحثين الغربيين الذين أرادوا أن يقنعونا بأن المرأة المصرية القديمة عاشت فى دائرة الظل، وهذا غير حقيقى حيث جاءت الدراسات والإثباتات لتثبت عكس ما رأوا وما أرادوا. وبغض النظر عن أبعاد ورؤى قانونية، فإننا نرى أن تعيين قاضية ليس منحة من أحد، وإنما هو بمثابة استمرار لنضالها عبر آلاف السنين لتشارك فى صنع القرار فى مصر القديمة، وفى جميع أرجاء العالم القديم. ولم تحظ المرأة الفرعونية حتى الآن بالاهتمام الكافى من العلماء، خاصة لأننا نعرف أن المرأة قد نالت فى مصر القديمة حقوقاً لم تنلها المرأة فى الحضارتين اليونانية والرومانية، وكذلك فى حضارة عصر النهضة فى أوروبا. ولما كانت لمصر عاداتها وقوانينها منذ أمد بعيد، وكانت للإغريق كذلك عاداتهم وقوانينهم، فإنه كانت تطبق على المصريين قوانين مصرية فى جوهرها، وعلى الإغريق قوانين إغريقية فى جوهرها. ومع ذلك فإنه إزاء تشابك مصالح الفريقين ومعيشتهما جنباً إلى جنب فى قطر واحد يهيمن عليه ملك واحد يقبض على كل مصادر السلطة فيه، لم يكن هناك مفر من أن يتسرب إلى قوانين كل من الفريقين بعض مظاهر قوانين الفريق الآخر. ويمكن تبين بعض الفوارق بين القانون المصرى والقانون الإغريقى، وكذلك بعض مظاهر التفاعل بينهما إذا تناولنا فى إيجاز شديد النواحى الرئيسية فى كليهما. ونرى مثلاً واضحاً للفوارق بين التشريعين المصرى والإغريقى فى نظرة كل منهما إلى المرأة، وذلك لأنه وفقاً للقانون المصرى كانت المرأة تستطيع التصرف فى نفسها وفيما تملك دون قيد أو شرط، فى حين أنه فى نظر القانون الإغريقى كانت المرأة قاصراً فى حاجة إلى وصى شرعى عليها فى كل تصرفاتها، ولم يلبث البطالمة أن ساووا بين المرأة المصرية والمرأة الإغريقية بالهبوط بالأولى إلى مستوى الثانية. ونلمس أثراً واضحاً لمظاهر القانون الإغريقى فى القانون المصرى بالنسبة لوضع المرأة فى بعض الشؤون الخاصة بالميراث، ومن ناحية أخرى فقد أخذ الإغريق عن المصريين عقود الزواج الخاصة بإثبات كل المسائل المالية، والقواعد الخاصة بسيطرة الأبوين على أبنائهما وبعض أحكام الميراث. وخلاصة القول أن المجتمع المصرى القديم لم يأب أن يتيح للأنثى ممارسة نشاطها المناسب لها فى بيئتها الخاصة، وفى مجريات بعض الشؤون المدنية والدينية والقضائية، وكذلك فى الحياة العامة، طالما تمتعت بالكفاية الشخصية وظفرت من الثقافة بنصيب يناسب عصرها وتقاليده. وعلى الرغم من أن مجالات التعليم الكتابى أو المدرسى كانت من شأن الأولاد أساساً، فإنه تبين من وثائق فردية قديمة متباعدة، أن قلة من المصريات تعلمن الكتابة والقراءة (فى بيوتهن) وانتفعن بهما، كما تذوقن الأدب وتراسلن به، فكان منهن بضع قليل حمل لقب الكاتبة (ربما وراثة عن آبائهن فى المهنة ذاتها)، ومن تولت كتابة رسائل الملكة، ومن شاركت زوجها الأمير فى كتاباته وقراءاته، وإن اعترفت بأنها بقيت دونه فى تجويد الخط وإتقان الأسلوب. ومن هذا المنطلق ومن خلال الإيضاحات سابقة الذكر فإن المرأة فى مصر القديمة قد حظيت بمكانة سامية فى شتى المجالات الدنيوية والدينية والسياسية والقضائية.