العبرة بالخواتيم! لا أقصد أعمال الآخرة فقط، لكن أحوال الدنيا أيضا. هب أنك تمتعت عشرات الأعوام. كانت حياتك مرحا وسرورا، وصحة فى البدن وسعة فى الرزق، وضحكات خالصة من القلب تغادر الكوكب الأرضى فيسمعها سكّان الكواكب البعيدة، فيحسدونك ويقولون: «أهل الأرض سعداء». هب أنك رُزقت العيش كله، والفرح كله، والنعمة كلها، ثم داهمك الوهن، فعشت سنواتك الأخيرة مريضاً، تفقد عافيتك كل لحظة، تعجز عن طلوع الدرج، تحتاج من يساعدك فى قضاء حاجتك، تلتهب شبكة أعصابك بالألم كعاصفة من نار. قل لى بربك، وأنت راقد فى فراشك، تسترجع أيام عمرك، وتعدّ كشف حسابك النهائى، هل ستقول لنفسك: «لقد عشت ستين عاماً من السعادة، وخمسة أعوام من الشقاء». ثم تجمع وتطرح لتخرج بالرقم النهائى، أم أن مرارة النهايات ستطغى بطبيعة الإنسان على عذوبة البدايات؟! مثال آخر: آخر قطرة من الشراب هى التى تبقى فى فمك! هب أنك شربت الشهد مصفيا، ثم ختمته بالعلقم، ما الذى سيتبقى فى فمك من مذاق؟ يقول ربنا عز وجل: «أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ». أجمل ما فى قصة الأستاذ جلال عامر هو الخواتيم. ليس فقط لأنه مات شريفاً عفيفاً منحازاً للبسطاء، وإنما لأن الله تعالى أنصفه قبل أن يموت. مات راضياً مَرضيّاً بعد أن اشتهر فى سنواته الأخيرة بعد طول تجاهل ونسيان. كانت موهبته مؤكدة، لكن متى كانت الموهبة- فى بلد كمصر- تضمن شيئا؟! كان الله يعلم أن عمره قارب النهاية، لذلك جعله يرى بعينيه حب الملايين. حتى إن ابنه رفض التصريح باسم المستشفى الذى يُعالج به خوفا من زحام المحبين. حديقة عامرة ممتلئة بالزهور، وهواء يعج بالشذى والعطور. قارورة عطر مركزة إذا انفتحت لم يتسع لها فضاء الغرفة. ما أروع أن تموت راضيا عن نصيبك فى الحياة، راضيا عن الله عز وجل. يقول سبحانه وتعالى عن خاصة أوليائه «رَّضِىَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ». تتساءل: كيف يرضى العبد الفانى عن الخالق العظيم؟ أمر قد يبدو مُحيّراً للوهلة الأولى، لكن حين تفكر فى الأمر بعمق، تجد أن رضا العبد بشرى برضا خالقه. مات جلال عامر راضياً. ليس مُهماً كمّ الشقاء الذى تجرعه فى حياته، جهاده كضابط، معاناته كمصرى! لا تستطيع أن تجمع الأرقام السعيدة ثم تطرح منها الأرقام التعيسة. السعادة أكبر وأجلّ من جمع وطرح. قارن بين الخاتمتين: جلال عامر وحسنى مبارك. بحساب الجمع والطرح، تجد أن معظم أيام مبارك سعيدة. قصور، مآدب، طائرات، سلطة، ثروة. لكن هل يساوى ذلك كله يوماً واحداً فى الخزى! هل يصلح هنا حساب الجمع والطرح؟ الأرقام لا تعبر عن شىء. الأرقام تكذب! والعبرة بالخواتيم. اللهم ارحم جلال عامر وارحمنا معه برحمتك يا رب العالمين! يا رب مهما كان من ذنوبنا فارفق بنا فى الخواتيم. [email protected]