أكتب هذه الكلمات فى الذكرى الأولى لموقعة الجمل.. حسب القناة الأولى للتليفزيون المصرى فقد وقع 13 «شهيداً» فى هذه المعركة العبثية – وهى عبثية لأننا لا نعرف حتى الآن من دبرها. يقول التليفزيون المصرى، فى أخبار الساعة التاسعة، إن «النظام» السابق متهم بالقتل أو الشروع فى هذه المذبحة.. لكن، يقول أيضاً، إن هناك من يشكك فى عملية المحاسبة، ولذك يطالب هؤلاء ب«هدم الدولة».. ولا أعلم عن أى نظام أو أى دولة يتكلمون بالضبط.. على أى حال، لى الآتى أن أقوله. أولاً، إن موقعة الجمل تعتبر هينة بالمقارنة بما حدث خلال العام الماضى من هجمات مذهلة فعلا فى دمويتها. ثانيا، ما هى «الدولة» التى يتكلمون عنها، التى من المفروض أن البعض يريد إسقاطها؟ الحقيقة أننا كان لدينا شعب وقع تحت وطأة الإرهاب، فصارت عناصر منه إرهابية فعلاً، لأن الجماهير لم تعد تخاف من الإرهاب، ولم يتقدم أحد لها ببديل قانونى ومنظم. ثالثا، إذن فشلت سلطة إدارة البلاد فى بلورة هذا البديل لإسقاط الدولة. رابعا، نعود لمعضلة الحكومة الذكية والقيادة الغبية، التى تكلمت عنها أكثر من مرة فى السابق.. ما حدث فى مصر هو خروج كل ما كان أكثر كفاءة وفاعلية واتصال بالعالم، وتم تبديله بأقصى العناصر نمطية ورجعية؛ القوى التى تتسم بقدر لافت للنظر فعلاً من الكسل الذهنى والانعزال عن العالم المعاصر.. ولا شك أن ذلك ينعكس حتميا على الواقع بطريقة فجة ذات آثار مدمرة. خامسا، هذه هى القوى نفسها التى عينت «الجنزورى»، المتبنى لمشروع توشكى الوهمى، وأفكار فاشلة كثيرة أخرى تعتمد على سلطوية الدولة، وبسط سيادتها الاقتصادية التسلطية. توهم البعض أنه صار بطلاً لمجرد أن مبارك قد فصله، ولم يفكر أحد أن مبارك وأعوانه، حتى إذا كانوا فاسدين وفاشلين عامة، فيمكنهم أن يقوموا بقرارات رصينة بعض الأحيان.. التفكير العقلانى يتطلب ذلك، يتطلب الاعتراف بأن الواقع عادة ما يكون معقدا، لكن المشكلة أنهم كانوا يتعاملون من منطلق قارئى الصحف الصفراء فى عصر مبارك، مما أشاعت من جهل وكسل ذهنى. والكارثة تأتى عامة عندما يصدق من اخترع النظريات المبنية على اللامعقول بما شيده من عبث، ضارباً بالمنطق وعقلانية المعلومة عرض الحائط. سادسا، المشكلة ليست فقط فى القوى التى خطفت الحكم تحت راية حماية الثورة.. وإنما أيضاً، وربما فى الأساس، فى القوى التى قامت بهذه الثورة وحملت رايتها.. فالواضح أن هذه القوى ليست لديها أى خطط جادة على الإطلاق، وأن حجة الاحتجاج هى حاجة وهدف لديها فى آن واحد، وذلك ليس بالطبع هو المجال لقيادة التحول نحو بسط وضع جديد. أعتقد أن هناك أسباباً كثيره لذلك، لكننى سأتطرق فقط لأهمها. سابعاً، لقد تعود الإنسان المصرى ألا يؤخذ جدياً.. وقد أصاب ذلك الداء على الأقل مرحلياً معظم «الثوار»، الذين بدأوا بجدية مطالبهم تجاه جهة أعلى «مسؤولة»، ولم يسألوا أنفسهم عن تداعيات ذلك بطريقة جدية وواثقة بالنفس.. فعلا، فلقد أصاب الثوار أيضا داء تسلسل القوى، ومعايير الهيبة، ورغبة التقرب من مصدر السلطة، حتى إن لم يشعروا بذلك؛ ودليلى على ذلك الكم الهائل من المطالب التى وجهت إلى المجلس العسكرى خلال ربيع وصيف 2011، مما أدى إلى إضفاء نوع من الشرعية على استمرار حكم متمثل فى هيئة اتهموها بخيانة الأمانة.. وكل ذلك فى غياب مفاوضات جادة بين الطرفين- طرف السلطة العسكرية ذات القيادة التسلسلية، وطرف الثوار دون قيادة فعالة. ثامناً، لقد تعود الكثير من المثقفين والسياسيين لدينا على خطاب «ديماجوجى»، لا عقلانى ولا واقعى، لأنهم تعودوا ألا ينفذ أى جزء يذكر منه على أرض الواقع، فما هى المشكلة فى المزايدة فى مجال العبث إذا كان ما يقوم بذلك يعرف أنه لا أحد سيأخذ بما يقول جديا؟ المشكلة أنه، هو نفسه لن يأخذ نفسه جديا. تاسعا، فى الظروف الحالية، مثل هذا الكلام وما يترتب عنه من أفعال، يمكن أن يؤخذ جدياً، ليتحرك العبث من مجال الشعارات نحو أرض الواقع.. وبالتالى، يتحرك العنف من الحيز الفكرى واللفظى إلى المجال الفعلى. عاشرا، من لا يستطيع التأقلم مع معطيات الواقع سينقرض، ونحن أمام إمكانية انقراض طريقة حياة بأكملها، تتضمن النظام والدولة وأيضا الجماعة المصرية، كما عُرفت وعرفت خلال آلاف السنين. الأحداث المتكررة أشارت لشرخ عميق فى تكوين الإنسان والمجتمع المصرى.. وطريق الخروج يمر بنا للتخلص من بعض أنماط حياتنا، المبنية على تسلل قيم الهيبة المبنية على شرعية منظر القوة، لنستبدلها بفكرة صيانة حرية الفرد، التى تصون كرامته المؤسسة على عقله واستقلاليته. [email protected]