أعرف مثلما تعرف تماماً أن فساد الحياة الحزبية لا يرجع فقط لمن يقومون عليها، ولكن جزءاً كبيراً منه يقع على عاتق النظام نفسه، الذى يمارس مع هذه الأحزاب ما يضمن به ولاءها «الخفى»، ويسمح له باستخدامها فى الإيحاء بوجود حياة ديمقراطية، أو ضرب أى مشروعات سياسية جادة قد تظهر على الساحة. هذا جزء من الصورة، وهو الجزء الذى يستند إليه زعماء الأحزاب فى تبرير إخفاقاتهم، وتواجدهم المحدود، بأحاديث «معلبة» وسابقة التجهيز حول حصار الأحزاب فى مقارها، وتوغل أجهزة الأمن فى داخلها بما يهدد بتفجيرها من الداخل فى أى وقت. لديك دستور يعطى رؤساء وقيادات الأحزاب «الشرعية» الحظوظ الأوفر فى الترشح للرئاسة، بينما يضيق على المستقلين، وهو انحياز يكون محموداً لا شك، حال توافر حياة حزبية سليمة فقط، أما وأنت تعيش بين بدائل أحدها التوريث واستمرار النظام، وبعضها زعماء أحزاب يحركهم ضابط شرطة، وتمنعهم فرق الأمن المركزى من النزول للشارع، وتتعلق عيونهم ب«عصا النظام وجزرته»، فأنت أمام وضع فى غاية الخطورة.. الرغبة فى التغيير ملحة وواجبة، بينما تعانى فقر البدائل المتاحة. تخيل معى أن كل حزب من هذه الأحزاب القائمة دولة مستقلة بذاتها، والنظام وأجهزة الأمن التى تخدمه وحزبه الحاكم قوة دولية عظمى تمارس على مَن حولها نفوذاً واحتواء واختراقاً وربطاً بمشروع هيمنة مطلق، تستخدم هؤلاء فى تبرير مشروعاتها الاستبدادية، تهددهم بالقوة والقانون والدستور الذى تمتلك صياغاته وتعديلاته فى أى وقت، وترغبهم بالمكاسب والصفقات والمقاعد البرلمانية والمنح والتعيينات، وعندما تتمرد تتدخل بالتفجير من الداخل، وتشعل «الحرب الأهلية» بين طوائف الحزب وعناصره ذات التباينات والاتجاهات المختلفة. أنت هنا أمام رؤساء أحزاب فشلوا فى الحفاظ على «استقلال» أحزابهم، وفى مواجهة سلطة محلية غاشمة، كما فشل أغلبهم فى الحفاظ على وحدة الأحزاب التى يتزعمونها، فانقسمت وانفجرت من الداخل، واشتعلت بين فرقها المنازعات والحروب الكلامية والقانونية، كما فشلوا فى إبقاء أحزابهم بعيداً عن «الاختراق» الخارجى، وفشلوا فى تبنى نموذج ديمقراطى داخلى يسمح بالحوار ويستوعب وجهات النظر المختلفة ويحتوى الاختلافات فى إطار تنوع فكرى يمنح الحزب قوة وصلابة، ناهيك عن الفشل فى النزول المؤثر للشارع وإبقاء كل ذلك رهناً بموافقة ورضا القطب الأوحد المهيمن على اللعبة. الفارق بين رئيس الدولة ورئيس الحزب، أن الأول لا يختار «جمعيته العمومية»، يأخذ ال80 مليوناً كما هم، بمشاكلهم وتبايناتهم واتجاهاتهم بمَن يوافقون عليه ومن يرفضونه، بمن يتفقون معه ومَن يعارضونه أشد المعارضة، بينما يمكن لرئيس الحزب أن يختار «أعضاء الجمعية العمومية» وأن يعرفهم بالاسم، وبينه وبينهم اتفاق أساسى على مبادئ عامة هى فى الأصل المبادئ الرئيسية للحزب. تخيل إذن أن الأقدار دفعت برئيس أحد هذه الأحزاب ليكون رئيساً للدولة، وهو الذى فشل فى حماية حزبه من الاختراق والتمزق والتبعية، ولم يستطع أن يواجه «ألاعيب» سلطة محلية مهيمنة، فكيف سيواجه مناخاً دولياً أشد صعوبة وشراسة، كيف لمن أخفق فى مواجهة «ضابط أمن دولة» أن يواجه أجهزة مخابرات، وكيف لمن أخفق فى توحيد 3 آلاف عضو فى حزبه أن يصون مصالح 80 مليوناً، وكيف لمن فشل مع مؤامرات «المباحث» أن يواجه المؤامرات الدولية..؟! [email protected]