الصين قادمة

تشهد الألفية الثالثة صراعًا حادًا بين جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة الأمريكية لقيادة العالم والتأثير على المسار الدولى للتنمية. حيث تتنافس الدولتان من أجل تحقيق الريادة العالمية على الصعيد الاقتصادى، وهو ما تؤكده معظم مؤشرات التنمية الدولية وتقاريرها التحليلية الاستشرافية بحد سواء. بيد أن العالم يشهد أيضًا صراعًا أكثر حدة وعمقًا بينهما على مستوى التقدم العلمى والتكنولوچى. وهو صراع لا يحظى بنفس الاهتمام على مستوى مسار التحول المعرفى بالألفية الثالثة. وبرغم حفاظ الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب الأوروبى على الريادة في مجالات إنتاج المعرفة ونشرها وتأثيرها التنموى خلال السنوات السابقة، فإننا نشهد منذ بداية حقبة العشرينيات من القرن الراهن نقطة تحول محورية في التقدم العلمى والتكنولوچى بوجة عام، والبحث العلمى والابتكار بوجة خاص على الصعيد العالمى. إذ تفيد أحدث المؤشرات الدولية بتحقيق الصين قفزات غير مسبوقة في مجالى البحث العلمى والابتكار وتأثيرهما المجتمعى والتنموى على نحو يوحى بزيادة فرصها في اعتلاء قمة الهرم المعرفى العالمى عبر السنوات القادمة، حيث تشير نتائج دليل الابتكار العالمى إلى الصعود السريع لمعدلات الأداء المعرفى الصينى من خلال التقدم (23) مرتبة عالمية على مدى العقد الماضى، إذ انتقلت الصين من المرتبة (35) في عام (2013)، إلى المرتبة (29) في عام (2015)، وإلى الترتيب (14) في عام (2019)، ثم إلى الدولة رقم (11) في عام (2022) على مستوى بلدان العالم.
من ناحية أُخرى، تتنافس الصين مع الولايات المُتحدة الأمريكية على المراكز الأولى عالميًا في حجم الإنتاج البحثى وجودته وفق معدلات النشر العلمى في الدوريات والمؤتمرات العالمية ومعدلات الاستشهاد بها من الآخرين. حيث نجحت الصين في حصد المركز الأول عالميًا في هذا المجال خلال العامين (2020 و2021)، والمركز الثانى عالميًا خلال سنوات الحقبة الثانية من الألفية الثالثة بوجه عام. ومن الملاحظ أيضًا أن معظم النشر العلمى الصينى قد تم الاستشهاد به من الآخرين بما يفيد بجودته وأهميته التطبيقية وتأثيره العلمى.
من زاوية أُخرى، يشير دليل سيماجو العالمى للبحث العلمى والابتكار إلى صعود مؤشرات جمهورية الصين الشعبية خلال الخمس سنوات الأخيرة على كافة الأصعدة. ويختص هذا المؤشر المركب بوجه عام بتقييم مؤسسات إنتاج البحث العلمى ومبادرات الابتكار والتنمية التكنولوچية، والسياسات الرامية إلى تطويرها.
وتتركز هذه المؤسسات أساسًا في الجامعات والمراكز البحثية والأكاديميات العلمية وشركات الأعمال الإنتاجية وبعض مؤسسات المجتمع المدنى الأخرى غير الهادفة للربح. وينقسم المؤشر إلى ثلاثة محاور فرعية تتمثل في البحث العلمى وجودته، ومعدلات إنتاج الابتكار والإبداع والتطوير التكنولوجى، والتأثير المجتمعى لمخرجات البحث العلمى والابتكار. حيث يختص محور البحث العلمى بعدد الأوراق والتقارير البحثية ومعدلات الاستشهاد بها، ومدى تميز النشر العلمى وتمايزه عن الأقران، ومدى توافر الكوادر البحثية عالية الكفاءة، والتعاون بين المؤسسات البحثية على المستويين الوطنى والعالمى. في حين يرتكز محور الابتكار على مساهمة النشر العلمى للمؤسسة في تحقيق الابتكار، ومعدلات إنتاجها من براءات الاختراع. وأخيرًا، يقيس المحور الثالث مجموعة من المؤشرات غير المباشرة الدالة على التأثير المجتمعى للمؤسسات البحثية والابتكارية.
وتفيد نتائج قياس مؤشر سيماجو العالمى بحصد الصين خمسة مراكز من بين أفضل عشر مؤسسات بحثية في إصداره لعام (2024). وتضم هذه المؤسسات كلا من الأكاديمية الصينية للعلوم ووزارة التعليم الصينية (المرتبة الأولى والثانية عالميًا)، وثلاث جامعات حققت المراتب الخامسة والسادسة والثامنة دوليًا، منها جامعة شنغهاى وجامعة الأكاديمية الصينية. وقد جاء المركز الوطنى الفرنسى للبحث العلمى في المرتبة الثالثة عالميًا. في حين احتلت الولايات المتحدة الأمريكية مرتبتين فقط من أفضل المؤسسات البحثية والابتكارية من خلال جامعة هارڤارد ومدرستها الطبية. وأخيرا، ظهرت شركة جوجل الدولية في المرتبة العاشرة عالميًا في مجالى البحث العلمى والابتكار.
على صعيد آخر، تُشير المؤشرات التحليلية في مجال الابتكار التكنولوچى والمعرفى بحد سواء، إلى الدور الرئيسى لشركات الأعمال المنتجة لسلع وخدمات. إذ يفيد مؤشر سيماجو للابتكار بسيطرة ثمانى شركات أعمال إنتاجية على أفضل عشر مؤسسات منتجة للابتكار على المستوى العالمى في عام (2024). بيد أن الصين حافظت على رأس القائمة العالمية للابتكار من خلال كل من الأكاديمية الصينية للعلوم، ومؤسسة شبكات الطاقة الحكومية الصينية، ووزارة التعليم الصينية (المراتب الأولى والثانية والثالثة على التوالى). أي أن هيكل كل من البحث العلمى والابتكار بجمهورية الصين الشعبية يعتمد في تميزه أساسًا على دور الدولة الداعم في هذا المجال، على خلاف ما تعكسه أنماط الابتكار والإبداع وسياساتها في الأكثرية من دول العالم. أما باقى الشركات السبع المُتميزة على صعيد الابتكار بدليل سيماجو، فتضم شركتين متعددتى الجنسيات، وأربع شركات أمريكية في مجالات تكنولوچيا المعلومات والاتصالات والبحوث الطبية، وشركة بريطانية في مجال الذكاء الاصطناعى.
نخلص مما سبق إلى أن مؤشرات العلوم والتكنولوچيا على المستوى العالمى تشير إلى تحقيق جمهورية الصين الشعبية قفزات سريعة على صعيد البحث العلمى والابتكار والتنمية التكنولوچية خلال العشر سنوات السابقة مقارنة بباقى دول العالم المتقدمة، بما يُمكن أن يُمهد لدور صينى ريادى يساهم في إعادة هيكلة منظومة العلوم والتكنولوچيا العالمية، ومن ثم تأثيرها على المسار المعرفى والتنموى الكونى في المستقبل القريب.