«العالم يقطنه صحفيون». جملة يمكن أن نلخص بها مضمون كتاب الصحفى الفرنسى إينياسيو رامونيه «انفجار الصحافة، من وسائل الإعلام الجماهيرية إلى جماهيرية وسائل الإعلام» الصادر منذ أسابيع ضمن منشورات «جاليليه». ويبدو أن المقولة الشهيرة لعالم الاتصال الكندى مارشال ماكلوهان «العالم قرية صغيرة» لم تعد كافية لكى تصف التطور الذى يفوق الوصف لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات. فالكل الآن أصبح مُرسلاً للمعلومات وقائماً بالاتصال فى ظل ما أشار إليه الكتاب من تغير البيئة الإعلامية التقليدية التى كانت تنحصر فى الصحف المطبوعة والتليفزيون والراديو تغييراً جوهرياً فى الشكل والمضمون. ونجح رامونيه رئيس تحرير دورية «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية السابق فى كتابه ومن خلال منهج تحليلى متميز فى رصد تأثير ما سماه «رقمنة العالم» المتمثلة فى طغيان الإنترنت على عمليات نشر ومعالجة المعلومات والذى أدى حسبه إلى اختلاف كامل فى مفاهيم الصحافة وفى عمل الصحفى. لم يعد هناك صحفى بالمعنى التقليدى: الشخص الذى يعمل فى مؤسسة صحفية وتتمثل مهمته فى جمع الأخبار وتحريرها وفقاً لقواعد مهنية بعينها. لكن كل موطن أصبح بفضل المدونات والفيس بوك وتويتر وغيرها من مواقع التواصل على الإنترنت، صحفى قادر على نشر الخبر وتعديله والتعليق عليه. أصبح العالم وكأنه صالة تحرير كبرى للأخبار، وهى الصالة التى كانت تميز المؤسسات الإعلامية والصحفية باعتبارها المكان الذى يتم فيه إنتاج وصياغة الأخبار. وهكذا يعلن رامونيه تغير جوهر وسائل الإعلام: لم تعد وسائل الإعلام جماهيرية إنما أصبح الجمهور هو الوسيلة الإعلامية. ويوضح رامونيه الجوانب السلبية فى هذا التطور: عشرات الصحف مهددة بالإغلاق وأخرى أفلست بالفعل، ولم يعد مجال للحديث عن مصداقية الصحف، فالخبر ينشر على الانترنت بسرعة حتى لو كان غير صحيح أو ناقص لأن هناك فرصة لمراجعته وإكماله فيما بعد أو حتى محوه من الأساس. أى أن الخبر ينشر على حد تعبير رامونيه كمادة خام وهذا يعنى أنها تتعرض للتشكيل بشكل مستمر من خلال الإضافة والحذف. لكن هذا لا يعنى، من جانب آخر، أن قراء الصحف المطبوعة تخلوا عنها بقراءة الأخبار التى يتم إنتاجها عشوائياً من خلال العديد من المواقع على الإنترنت، فلم يتخل هؤلاء القراء عن صحفهم المفضلة بل على العكس تضاعفت أعدادهم بشكل ضخم لكن على الشبكة هذه المرة، فعلى سبيل المثال كما يوضح رامونيه فإن صحيفة نيويورك تايمز التى تطبع 950 ألف نسخة يقرأها على الانترنت 43.7 مليون. الأمر نفسه فى فرنسا فأكثر من 5 ملايين قارئ يتصفحون موقعى صحيفتى «لوموند» و«لوفيجارو» كل شهر. لا شك إذن فى حتمية استمرار الصحف المطبوعة حتى فى ظل هذا العالم الجديد من الصحفيين الذين فاض بهم الكوكب لكن تبقى حقيقة يؤكدها إينياسيو: هذه الصحف تتعرض لأزمة هوية تمثلت فى خطيئة ارتكبها الكثير من الصحفيين حين اعتبروا أنفسهم صفوة تملك الحقيقة وأن ثمة قارئ سلبى ضعيف لا حول له ولا قوة ينتظر دوماً ما يجودون عليه به من معلومات. وبالطبع تغير تصور الصحفيين هذا عن أنفسهم إلى الأبد، فمرة أخرى، كل مواطن أصبح هو نفسه صحفى لذا لابد من إعادة تعريف الصحفى وهو ما حاول رامونيه أن يفعل فى كتابه عبر طرح مجموعة من الأسئلة: «لو أصبح كل شخص الآن صحفياً، فماذا يعنى صحفى؟ وما هى مميزاته؟ وكيف يمكن التمييز بينه وبين أحد نشطاء الإنترنت الذى يلاحظ ويقدم وجهة نظره عن الواقع الذى كان هو نفسه شاهداً عليه؟ لكن يقول رامونيه إنه من الصعب تقديم إجابات شاملة عن هذه الأسئلة، لكن ثمة أمر بديهى يتمثل فى أن الصحفى بمعناه التقليدى لابد وأن يعمل دائما على نقل الخبر الصحيح وبشكل دقيق، ورغم أن هذا الأمر كان يعد شرطاً من شروط نشر الخبر إلا أنه، كما يعلن رامونيه، أصبح لا يطبق دائماً فى ظل الضغط المستمر من أحداث لا حصر لها.