لمصطلح "النفس" في القرآن الكريم هيبة ووقار ، ومكانة واعتبار .. إذ أن الله -عزوجل- ذكر هذا المصطلح في مواضع شتى متفرقة ومتعددة .. للدلالة على جوانب كثيرة من الطبيعة الإنسانية .. وإذا كان القرآن قد قسَم الإنسان إلى أجزاء متراكبة ، متكاملة ومتداخلة أحيانا –من جسد وروح وعقل ونفس!- نفهم تكوين بعضها ، ونحار في فهم بعضها الآخر .. فقد كانت أوسع هذه الأجزاء دلالة هي "النفس" ، ذلك أن سياقاتها الكثيرة والمتنوعة ، نوعت معها دلالاتها ومعانيها ، وجعلتها تشمل أحيانا معها أجزاء أخرى كالروح ، والجسد ، والعقل ! فالنفس ارتبطت بكينونة –معنوية غالبا ومعنوية حسية ملموسة أحيانا- قادرة على التمييز بين الخير والشر ، والصواب والخطأ ، تُحاسب على ما تفعله وتُجازى عليه ، وبالتالي هي منبع الإدراك الاختيار والقرار –وهي في هذا تقترب من مفهوم العقل- ، يقول تعالى : "اليوم تُجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب" .. وارتبطت كذلك بدلالات مشتركة مع الروح التي لا يعلم تفصيل أمرها إلا الله –عز وجل- ، يقول تعالى :"الله يتوفى الأنفس حين موتها ، والتي لم تمت في منامها" ، وهنا من أبواب الاختلاف كثير ، إذ يحتمل أن انقباض الروح أو وفاة النفس قائم بالحالين ، ويحتمل كذلك أن الروح لا تغادر إلا عند الموت فالنفس مساوية لها في النصف الأول من الآية ، بينما عند النوم فإن العقل هو الذي يغيب ، وبالتالي فإن النفس مساوية له هنا ! وفي الحالين الواردين في السياق الأخير ، وفي مجموع السياقين معا ، وما في السياقات الأخرى التي لا يستع المجال لذكرها دلالة على شمول مفهوم "النفس" ، واتساعه ليشمل المكون الحسي ، والشعوري ، والعقلي ، وربما ما وراء الإدراكي للإنسان .. وإنما أردت بما سبق من تقديم –موجز وعابر- توضيح مدى تعقيد النفس البشرية ، وصعوبة اختزالها في رؤية ضيقة ، تمهيدا لخاطرة بسيطة تراودني منذ زمن حول درجات النفس البشرية كما وردت في القرآن .. وكما سمعنا وقرأنا –معظمنا- أن للنفس في القرآن الكريم مراتب ثلاث هي من أدناها لأرقاها كما يلي : أولا – الأمارة بالسوء ، يقول تعالى على لسان امرأة العزيز : "وما أبرئ نفسي ، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي" .. ثانيا – اللوامة ، يقول تعالى : "لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة" .. ثالثا – المطمئنة ، والتي ترجعُ إلى ربها راضية مرضية ، يقول تعالى : "يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية" .. وفي كثير مما قرأته ، أو ناقشته وجدت تصورا سائدا له منطقه وحجيته .. يقول بأن المراتب الثلاث منفصلة عن بعضها ، وأن ارتقاء النفس من مرتبة إلى مرتبة ، وسموها من درجة لدرجة ، يطهرها من المرتبة الأقل ، وينفي عنها الدرجة الأدنى بشكل كلي .. ولكن يراودني دائما أن النفس –كل نفس- إنما تحمل الدرجات الثلاث بنسب متفاوتة ، وهذا يتضح أكثر مع السمو لا الدنو فكلما ارتقت فقد جمعت درجة أخرى أرقى تسود على الدرجة الأدنى بداخلها وتنتصر في تهذيبها ومقاومتها لكنها لا تقصيها ولا تنفيها نفيا كليا .. فالنفس اللوامة ، إنما هي في حقيقة الأمر .. نفس تأمر بالسوء ، وتقاومه وتلومه .. أو تقصر عن الاطمئنان فتلوم تقصيرها وتقاومه ، وتسعى إليه ! .. وما هي أدنى منها أي النفس الأمارة بالسوء فإنها تأمر بالسوء ، وتقصر عن الاطمئنان –دون أو تأنيب داخلي كافٍ للوم السوء فإيقافه أو إيجاد الاطمئنان في حينه- لكنه ليس منعدما تمام الانعدام بدليل أن امرأة العزيز في النهاية رضخت لزيادة هذا التأنيب ووصوله لمرحلة تسمى في الطب "threshold" وهي المرحلة الناتجة من تراكم المؤثر الضعيف ليصبح قادرا على التأثير .. ولذلك لامت نفسها ونراها قالت " الآن حصحص الحق ، أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين * ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين" وكذلك الأمر فيما هو أعلى منها أي النفس المطمئنة ، فهي كذلك تأمر بالسوء ، وتلومه –سواء قبل حدوثه لمجرد التفكير فيه أو حين حدوثه- ، وهذا جزء من بشريتها أو إنسانيتها أو "نفسانيتها" ! ، لكن سواء هذا الأمر أو اللوم فإنهما عابران غير متكررين ولا مؤثرين على حالة اطمئنانها السائدة الغالبة ، لكنهما كذلك غير منعدمين انعداما تاما ، يؤكد لي ذلك حديث الرسول-ص- : "كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون" ! ، وكما أوردت في المقدمة أن النفس تحمل مسئولية الأخطاء –وإن قلت- والأمر بها ! وهي التي تلومها وتقاومها حين يصل التأنيب الداخلي لمرحلة التأثير ، ثم هي التي تطمئن كذلك حين يصل اللوم لمرحلة التأثير في عدم تكرار السوء ، والزيادة في الخير ! والإنصاف يقتضي الذكر أن من يرى أن النفس درجات مستقلات لا تداخل بينها له منطقه ، إذ يستدل بقول امرأة العزيز الوارد في سورة يوسف : "إن النفس لأمارة بالسوء ، إلا ما رحم ربي" ، وهذا الاستثناء يدل دلالة مباشرة على أن هناك من الأنفس أنفسا رحمها الله فاستثناها –وهي بالتالي أرقاها أي النفس المطمئنة- ! ، إلا أن ذلك يمكن الرد عليه بأن النفس المطمئنة ليست "أمارة بالسوء" بما للفظة من دلالة على تكرار الأمر وتأثيره ، وإنما هي وفق بشريتها "آمرة" أوامر عابرة هي الاستثناء لا الأصل ، وهي لا تصل غالبا لمرحلة التأثير وبذلك هي مستثناة وغير مستثناة ! وخلاصة خاطرتي أن كمال النفس ، نقصانُ نقصانِها ! ولوم أمرها بالسوء فيه زيادةُ حسنِها ، ولوم قصورها عن حسنها نبع اطمئنانِها ! اللهم هب لنا رقيا وسموا في نفوسنا يارب العالمين ، حتى ترضى فنرضى ! ** على الهامش .. أخاف من الكتابة عن القرآن ، ومن تسجيل خواطري حوله –على بساطتها- علها قد يكون فيها خطأ أو قصور ، أو علها تُفهم أنها آراء أهل علم فتؤخذ باعتبارها صحيحة الفهم والاستنتاج ، ألا وقد حسمت أمري وكتبت .. فليسامحني الله –عز وجل- إن كنت أخطأت أو قصرت ، وإنما هذا من باب حثه لنا على التدبر والتأمل ، إذ يقول : "أفلا يتدبرون القرآن ، أم على قلوبٍ أقفالُها !؟" ، وهو بذلك لم يجعل التدبر ومحاولة الفهم قاصرة على أهل الذكر والعلم ، كذلك فلتعذورني ولتأخذوا كلامي على أنه تدبر شخصي بحت ، ربما يثير أسئلة نحو مزيد من التدبر ، ولا يقدم علما أو إجابات .. اللهم اغفر لنا تقصيرنا ..