دائما ما ينتهى الفصل الخامس، أو الأخير، فى التراجيديا الفرنسية الكلاسيكية، بنهاية مأساوية، ففى مسرحيات (الكاتب الفرنسى الكبير) جان راسين، قامت فيدرا بتسميم نفسها، كما طعنت إيرفيل نفسها، فيما ذهب عقل أوريست، ثم يسدل الستار، وتضىء الأضواء، ويغادر الجمهور المسرح، وتستمر الحياة الحقيقية. وبعد 5 قرون على هذه المسرحيات، ومع استعداد فرنسا لفصلها الخامس اليوم، فإنه يبدو أنه لايزال لدى راسين دروسًا مأساوية يعلمها للفرنسيين. وتحدث الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون إلى الأمة، وأعلن «حالة الطوارئ الاقتصادية»، ومن ضمن التدابير التى أعلنها هى تعهده برفع الحد الأدنى للأجور بمقدار 100 يورو، وهى لفتة مهمة، حيث كان وزير العمل الفرنسى قد تعهد قبل يوم واحد فقط بعدم الزيادة. لكن من غير المرجح أن يعالج هذا الخطاب ما لحق برئاسة ماكرون، فمنذ منتصف نوفمبر، احتلت الحركة الواسعة المعروفة باسم «السترات الصفراء» مركز الصدارة، والسبت الماضى كان بمثابة الفصل الرابع من الاحتجاجات الجماهيرية، فهو يوم السبت الرابع للتظاهر على التوالى، وهذه المرة، تجمع أكثر من مئة ألف متظاهر فى عشرات المدن، مع تظاهر 10 آلاف فى باريس وحدها. وقد جاءوا للتعبير مرة أخرى عن استيائهم، وكراهيتهم للحكومة، وللرئيس ماكرون، ويرجع سبب هذه الكراهية، فى جزء منه، للعديد من الإجراءات الرسمية، بدءاً من رفع الضرائب الذى تم إلغاؤه الآن، وضريبة البنزين، وخفض الحد الأقصى للسرعة، وزيادة الضرائب المستقطعة، وإلغاء ضريبة الثروة، إلى جانب انخفاض القوة الشرائية، واستمرار البطالة. ومع ذلك، تفشل هذه السياسات وحدها فى تفسير المشاعر الاجتماعية، والسياسية، التى باتت تنتشر فى فرنسا اليوم. ويصر ماكرون على الحكم بطريقة يطلق عليها مستشاروه بأنها «عمودية»، وهذا يعنى أن الأوامر لا تأتى فقط من القمة، ولكن التفكير أيضا يقتصر على القمة فقط، وهذا لا يتعلق فقط بالنسبة للإجراءات الأخيرة، ولكن أيضًا بموقفه العام. وخطاب الاثنين هو دليل على رغبة بعض الفرنسيين فى مواجهة التحدى، ولكن الثمن كان باهظا، فمن حيث عدد الضحايا هناك 6 قتلى، ومئات الجرحى، وفقد الكثير من الأموال (مئات الملايين من اليورو فى الأضرار المادية)، وهو كارثة كاملة لماكرون. ومع ذلك، لم يرد ماكرون بما يكفى، فى خطابه، ليثبت أنه يدرك ما يحدث، فهو يدرك أنه «جرح» الآخرين بكلماته، لكنه لم يعتذر عن تلك الكلمات نفسها، الأهم من ذلك أنه بينما كان يحاول تغيير نبرته، فإنه ليس من الواضح ما إذا كان قد غيرها بشكل كاف أم لا. وعلاوة على ذلك، وعلى الرغم من أنه استخدم مرارًا عبارة «الأراضى» للتأكيد على اهتمامه بالمقاطعات فى فرنسا، إلا أنه من غير المحتمل أن يقتنع أى شخص بمحبته الصادقة لهذه المقاطعات. وقد عاد عدد لا يحصى من المعلقين إلى ماضى فرنسا الثورى من أجل فهم المأزق الحالى الذى تعيش فيه البلاد الآن، ويستشهد الكثيرون منهم بعام 1789، فى حين أن البعض الآخر يستشهد بأعوام 1830، و1848، و1870، وقد تمت مقارنة مظاهرات السترات الصفراء بحركة حرفيى الطبقة العاملة فى باريس الذين مهدوا الطريق إلى الإرهاب، وبالطلاب الباريسيين فى عام 1968، الذين أطاحوا بحكومة شارل ديجول، غير أن معلقين آخرين يربطون بين ارتفاع سعر البنزين اليوم وارتفاع سعر الخبز فى 1789. والمشكلة أن مأزق فرنسا الحالى هو أحدث بكثير، وأقدم بكثير، من أى من هذه المقارنات التاريخية، فهو الأحدث، ليس لأن السترات الصفراء هى حركة بلا قيادة، فهذا كان إلى حد كبير نفس وضع ثوار عام 1848، ولكن لأن مصدر كل ثورة فى فرنسا كان باريس وسكانها، فمن 1789 وحتى 1968، كانت عاصمة النور هى البطل العظيم فى القصص الثورية لفرنسا، كما هو الحال فى العالم الحديث. وقد قلبت الأسابيع القليلة الماضية هذه الحقيقة رأساً على عقب، فالغالبية العظمى من متظاهرى السترات الصفراء ليسوا من سكان باريس، ولكن من المقاطعات، فمنذ فترة طويلة بات سكان هذه المناطق الحضرية والريفية، معزولين بشكل متزايد عن الدولة، وخدماتها المتناقصة، ومن خلال مظاهراتهم، لم يسرقوا الدور الرئيسى من باريس فحسب، بل قاموا بتحويلها إلى مرحلة بسيطة فى الحركة، ولكنها مرحلة مأساوية. وهناك الآن، فى هذه الاضطرابات، شيئًا أقدم بكثير من هدف الحكومة المتمثل فى الاستقامة المالية، أو هدف السترات الصفراء للعدالة الاقتصادية، وهو ما نراه فى مسرحيات راسين: الخلل فى شخصيات الأفراد الذين، رغم أنهم يتصرفون بحسن نية، يرتكبون الكثير من الأخطاء، وفى مأساة فرنسا الحالية فإن الحاكم يرتكب أفعالا غير مبررة، لأسباب مبررة. ومن المثير للدهشة أنه فى حين ألغى ماكرون أخيرا زيادة ضريبة البنزين، إلا أن معارضته لاتزال مستمرة، وشعبيته مستمرة فى الهبوط، ووفقًا لاستطلاع أجرته صحيفة «لو فيجارو» فقد انخفض دعم ماكرون إلى 21٪. نقلا عن مجلة «فورين بوليسى» الأمريكية ترجمة- فاطمة زيدان