السياسة الدينية أو تسييس الدين، والدين السياسي أو تديين السياسة، مصطلحات غفل عن معناها ومضمونها كثير ممن يدافعون عنها أو يهاجمونها وما ذلك إلا لأن البعض -من كارهي الدين أو الجاهلين به أو الظانين أنه غير تام أو متكامل أو متوافق مع متطلبات العصر الحديث أو الذين يحصرون الدين في مسألة تطبيق الحدودويخشون منها- يزعمون أن كل علاقة بين الدين والسياسة إنما هي علاقة إقحامٍ أو علاق التقاء متنافرين لا يجتمعان، وتلك هي الصورة التي يبثها أولائك في أسماع وأذهان العوام، فهم يحسبون أن الشرعية والصواب يكتسب من عامة الناس كما تزعم الديمقراطية فيسيطرون على عقول هؤلاء ليصلوا إلى ما يريدون مهما كانت الوسيلة من كذبٍ وتدليسٍ وادِّعاءٍ بالباطل، المهم أن يصلوا إلى مبتغاهم، وهذا ليس بغريب على أناس يريدون تحييز الدين وتحييده بزعمهم حتى يتسنى لهم استيراد أنظمة وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان بل وتتضارب مع أوامره ونواهيه وشرعه، وكأن الدين سيظلم الناس أو يبخسهم حقوقهم. ولو أردنا توضيح الفرق بين المصطلحين لقلنا أنهما يعتمدان على الإضافة اللغوية، فالمصطلح الأول "السياسة الدينية" يعني السياسة التي هي من الدين أو منهج الدين في السياسة فهي مشتقة من الدين لا تخرج عنه والتي يدلل عليها الدين ويشرعها فهي مضافة إليه لا مضافا إليها فهو الأصل وهي فرع منه، وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابا أسماه "السياسة الشرعية" يناقش هذا الأمر، وتسييس الدين أي جعله مصدر السياسة واستقاء السياسة العامة والخاصة والداخلية والخارجية منه ومن تشريعاته، أما المصطلح الثاني "الدين السياسي" أو تديين السياسة فهو استغلال الدين في تعزيز الاتجاهات السياسية الخارجة عنه، وهذا أينما وجد وجد علماء السوء الذين يزورون ويدلسون ويبدلون كلام الله تعالى ومعانيه ومفاهيمه ودلالاته ليدللوا به على صحة سياستهم وسياسة ملوكهم، وهذا النوع استخدمه ملوك أوروبا قيدما فاستعانوا بالكنيسة ورهبانها في كبت شعوبهم واستعبادهم وإضفاء الشرعية الدينية على قراراتهم وأوامرهم، وهذا هو الذي أنشأ العلمانية والثورات التي هاجمت تحكم وتجبر الملوك والحكام وهاجمت الكنيسة ورهبان السوء الذين كان همهم إرضاء ملوكهم، وجدت تلك الثورات من يؤججها وينحرف بها عن مسارها فلم تكن هذه الثورات ضد فساد رجال الدين بل كانت ضد الدين نفسه والكنيسة نفسها ولم يفرقوا بين الدين والخبثاء المنتمين إليه، وهذه الطريق استخدمه ولا زال يستخدمه بعض الحكام كما استخدمه رئيس مصر السابقعندما اختزل الأزهر في صورة أشخاص منه يظهرون على الشاشات ويقتحمون مجالس الشعب والشورى لِيَهِمَ الشعب أنه يتمتع بالشرعية الدينية وباعتراف أكبر مؤسسة دينية في البلاد، وهو الطري قالذي جنة على الدين لمَّا لم يفطن الناس إلى الفرق بين المصطلحين، ولما لم يكن لديهم العلم الكافي ليعرفوا ما الذي من الدين وما الذي ينسب إليه وهو خارج عنه. وحتى نبين موقف الدين من السياسة وموضع السياسة من الدين ينبغي علينا أن نطرح على أنفسنا أسئلة مهمة عليها مدار الحياة وهي، لِمَ خُلِقنا؟، وكيف نعيش؟، وماذا نريد؟، ولأننا نؤمن بكتاب الله فإنما يكون جوابنا منه، أما جواب السؤال الأول فيقول الله تبارك وتعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وأما جواب السؤال الثاني فيقول سبحانه {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، وأما جواب السؤال الثالث فيقول سبحانه {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82]، ويقول {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، ويقول {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]، فالمسلم لا يعيش لمجرد تحصيل الدنيا ومنافعها ولذاتها بل إن كل مكاسبه من الدنيا إنما يستعين بها على إقامة دين الله وتطبيقه في نفسه ومجتمعه والدعوة إليه، فالنوم واليقظة والأكل والشرب والقول والفعل والحركة والسكون كلها وسائل ينبغي على المسلم الاستعانة بها على ذلك، وعليه فإن الدين داخل في كل شئون الحياة، فليس ثمَّةَ حياة دينية وحياة مدنية أو حياة عامة بين الإنسان والمجتمع وحياة خاصة بين الإنسان وربّه، بل الدين منهج إلهي متكامل تنبثق عنه تشريعات تنظم حياة الإنسان في كل شئونه عبادات كانت أو معاملات، بل أن المعاملات نفسها منها ما هو عبادات أصلا ومنا ما تحوله النية إلى عبادة. والعبادات منها ما هو متعلق بالآخر فهي ليست بين العبد وربّه فقط كالصدقة والزكاة والسلام والزواج والجهاد ونصرة المسلم وغيرها من العبادات التي يتعامل فيها الإنسان مع أخيه مبتغيا بذلك رضى الله، فاملعاملات داخلة في العبادات، بل إن معاملة المسلم مع غير المسلم وما شرعه الله فيها داخلة في العبادات، فمن قال أن الدين بين العبد وربه فقد قال كلمة حق أريد بها باطل، فالدين بين العبد وربه من جهة النية والإيمان الذي في القلب لكن هذا الإيمان يستلزم القول والعمل بما شرعه الله، فقائلوا هذه الكلمة الآن إنما يريدون بها إخفاء الدين وشعائره ومعالمه من الحياة العامة وحصره في العبادات التي تكون بين العبد وربه فقط كالصلاة والصيام، فلا جهاد ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ولا امتثال لشرع الله فيما يتعلق بالزواج أو الطلاق أو العقود أو الحدود وغيرها من المعاملات التي بين الله أصولها وآدابها في شرعه. وإذا رجعنا إلى كلمة السياسة نبحث عن معناها الذي يقصده الناس الآن لوجدنا تعريفها كما جاء في موسوعة الويكيبيديا أن السياسة لغويا من ساس يسوس بمعنى قاد رأس، واصطلاحا تعني رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية، وتعرف إجرائيا حسب هارولد لازول بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على ماذا (المصادر المحدودة) متى وكيف. أي دراسة تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة (ديفيد إيستون). وعرفها الشيوعيون بانها دراسة العلاقات بين الطبقات، وعرف الواقعيون السياسة بأنها فن الممكن أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعيا وليس الخطأ الشائع وهو أن فن الممكن هو الخضوع للواقع السياسي وعدم تغييره بناء على حسابات القوة والمصلحة. إذن فالسياسة بمعناها العام هي رعاية شؤون البلاد الداخلية والخارجية وتحديد من يحصل على ماذا ومتي يحصل عليه وكيف يحصل عليه وتقسيم الموارد في المجتمع ودراسة العلاقة بين الطبقات، وهذا التعريف بكل ما اشتمله من إجمال وتفصيل ليس بغريب عن الدين ولا هو مناقض له ولا هو مبتدع فيه ولا هو جديد عليه، بل الدين ينظم كل هذه الجوانب وأكثر منها ويجعل لها أحكاما وآدابا تهدق إلى الارتقاء بالمجتمع وجعل حياة الإنسان كريمة، والأمثلة على تشريع الله فيما يتعلق بالسياسة الداخلية كثير فكل أحكام الإسلام التي تنظم تعاملات المسلمين مع بعضهم البعض ومعاملاتهم مع الذميين داخلة في هذا الباب وأما ما يتعلق بالسياسة الخارجية فأحكام الإسلام المتعلقة بالمعاهدين من الأعداء والمحاربين منهم ليست خافية، وكذا التعامل داخل المجتمع بين المسلم والمسلم وبين المسلم والذمّي وبين المسلم والمستأمن، بل وتعامل المسلم المجاهد مع العدو المحارب إذا انتصر عليه والتعامل مع الأسرى، والرفق بالإنسان والحيوان بل والرفق بالنبات، كل هذه آداب وتشريعات أتى بها الدين ولعلنا نبسط في ذكر أدلتها في موضع آخر حتى لا نطيل، ومن شاء أن يعرف ممن لا يعرفون هذه الحقائق فعليه بالقرآن الكريم وتفاسيره وكتب السة وشروحها، وكتب المعاملات وآدابها التي بينت أن كل هذه الجوانب هي من الدين وداخلة فيه، نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق.