بينما أنا مُقيّد اليدين معلقًا بحبل سميك في سقف تلك الغرفة الواسعة ذات الضوء الخافت و الرائحة النتنة -التي اكتشفت لاحقًا أني إحدى أسبابها- و صمت مطبق تكسره بضعة آهات لعشرات الأشخاص متدليين من السقف مثلي تمامًا، رايتهم توًا حين تأرجحت قليلاً لأرى ما حولي. و من خارج الغرفة بدأ يتسلل صوت التلفاز حاملاً أغنية "مصر اليوم في عيد" ثم رنين هاتف و سمعت صوت المتحدث يتكلم بنبرة روتينية تستطيع منها أن تتنبأ أنه ضابط يتحدث لرتبة أعلى منه كثيرًا و إذ به يُردد عبارات متنوعة للشكر و الثناء ثم ينهي المكالمة ب "ربنا يخليه لينا كل سنة و سعادته طيب" ، شعرت في تلك اللحظة بمرارة شديدة و ألم يعتصر قلبي ليمر أمامي كل ما حدث و كأني أحلم. زوجتي : بس مش ممكن يكونوا فعلاً العيال اللي ماتت دي بلطجية و حرامية كانوا بيتحرشوا بالمتظاهرين زي ما قالوا في التليفزيون؟ حماتي : ماهو لسه بيقولوا كدا أهوه (مشيرة لبرنامج توك شو يستضيف كاتب معروف و رئيس تحرير لإحدى صحف الفضائح و أحد مُدعي الوطنية من المعارضة المستأنسة) و أنصت قليلاً للرجل فأجده يؤكد على تصريحات وزارة الداخلية و أن هؤلاء الشباب ليسوا كما يردد البعض بأنهم شهداءً للحرية بل هُم مجرد مجموعة من البلطجية و مدمني المخدرات المسلحين و كانوا مُندسين بين المتظاهرين في الميدان، و أقسم على الهواء مباشرة أن أحدهم وقف أمامه في وسط زحام الميدان مهددًا إياه بمسدس و أخذ كل ما معه من مال و كذلك هاتفه المحمول، فلم أحتمل أكثر وتملكني الغيظ فقلت : و هل من المنطقي إن أكثر من ميتين لص بين آلاف المتظاهرين و ما يكشفهمش حد غيره؟ دا على فرض أنهم كانوا غايبين عن الوعي عشان يسيبوا مصر اللي خالية تمامًا من الأمن اللي متواجد بس في التحرير و يدخلوا وسط المتظاهرين عشان يقلبوهم .. فيه حد يقول كدا يا جدعان!! زوجتي : بس الحمد لله إنك ماكنتش في التحرير، كان ساعتها الموبايل بتاعك لو إتسرق هيبقى خامس أو سادس موبايل يتسرق و تدخل موسوعة جينيس. حماتي : يا شيخة ف داهية الموبايل، المهم مايعملوش فيه حاجة .. دا بيقولك معاهم مسدسات مش مطاوي. فقررت أن أخرج من المنزل لمقابلة بعض الأصدقاء و نزلت الى الشارع مسرعًا أترحم على أرواح هؤلاء الشباب الذين التصقت بهم تلك الاتهامات بينما كوفيء من أصدر أمر قتلهم بلا رحمة بتعيينه نائب رئيس الجمهورية. و إزداد حنقي حين تحولت فقرة أم كلثوم على إذاعة الأغاني لفقرة أغاني وطنية من عينة "يعنى الحكمه وصبر وعزم بقوه تهد جبال " و "لما قالوا إنك في شدة شوفت صورة أبويا فيك"، فأحسست بحاجة مُلحة لأن أستمع لمطرب يتيم الأب و ربما الأم على سبيل الاحتياط حتى أهدأ قليلاً، فأخرجت من التابلوه سي دي كوكتيل مضروب ل "عبد الحليم" ليزداد إحساسي بالحسرة و النكسة مع أغنية "عدى النهار"، لتتحول بعدها إلى غيظ شديد من زحام غير مبرر في منطقة تتسم دومًا بالسلاسة النسبية في المرور قرب نهاية شارع الهرم و بعد " كلاكسين أو تلاتة مش أكتر " عرفت السبب حين رأيت ضابط شرطة صغير السن و الرتبة متوجهًا ناحيتي راسمًا نظرة "البولدوج" الشهيرة في الداخلية على ملامح وجهه الطفولي البائس، و قبل أن يتوقف أمام نافذة سيارتي أشار بيده إشارة متعارف عليها في المطاعم عند طلب دفع الفاتورة و في اللجان المرورية أيضًا عند طلب قبض الفاتورة، فأخرجت رخصتي و رخصة السيارة و تحسست صدري لأطمئن على ارتدائي الحزام و بعد تأكدي من سلامة موقفي ابتسمت بسخافة و أنا أنظر له منتظرًا أن يعيد لي الرخص مصحوبة بكلمة " ألف سلامة" بنبرة تحمل الكثير من خيبة الأمل، لكني لم أسمع سوى صوت بذيء يخرج من آخر الحلق تعبيرًا عن الاستنكار تليه كلمة "نعم يا روح أمك" فحمدت الله أن ذلك الصوت يأتي من ضابط آخر محدثًا رجل ربما في الأربعينات يقود سيارة على يميني و يبدو عليه الوقار و الحكمة اللتان و لله الحمد لا تتوفران في شخصي المتواضع، فرمى لي الضابط الواقف على نافذتي الرخص و ذهب مسرعًا بإتجاه زميله صاحب الصوت البذيء لمساعدته و ليس تهدئته أو لومه طبعًا، و إذ به يتجه ناحية الرجل الوقور و يفتح باب سيارته ثم يجذبه من قميصه خارجها بدون أن يسأل حتى زميله ماذا حدث، لينهال الإثنان عليه بأبشع الألفاظ و بعض اللكمات، فمسكت موبايلي لأصور بسرعة ما يحدث لربما أضيف كليب جديد ل "تشانل" التعذيب في مصر على ال "يوتيوب" و قبل أن أكمل تسجيل دقيقتين على الأكثر فاجأتني دفعة لرأسي من الخلف لألتفت فأجد أمين شرطة يفتح باب سيارتي أنا الآخر صائحًا ليسمعه الضباط "إنتَ بتصور إيه يااد يا ......." ثم سحبني خارج السيارة و خطف الموبايل من يدي فصحت أنا الآخر محاولاً تصحيح صورتي بعدما نعتني بلفظ خارج ككناية عن "الفرفرة" لأقول أني أستاذ جامعي و كدا عيب و مايص....، و لم تُتح لي فرصة التكملة بعدما بدأ أمين الشرطة بتنفيذ أمر الضابط بأخذي على البوكس ليلحق بي فيما بعد ذلك الوقور الحكيم و قد صار في أمس الحاجة إلى حكيم أو طبيب يمسح بعض الدماء من على وجهه. و لم يتسنى لنا تبادل الحديث داخل البوكس بسبب وجود عسكري كل وظيفته أن يمنع أي محاولة للنقاش أو حتى التعارف بين من هم بالداخل ربما يتفقوا على شيء ما ضد سير العدالة، و حين وصلنا أمام قسم الشرطة فوجئت بأمين الشرطة يمنعنا أنا و الرجل الوقور فقط من النزول مع البقية قائلاً لنا " لا إنتوا بقى المحطة الجاية "، و تحرك البوكس و عند دورانه من فتحة في منتصف شارع الهرم تقريبًا تنبأت في ريبة بمحطتنا التالية و التي تيقنت منها حين إنعطف البوكس يمينًا قبل أن يخرج العسكري شريطان سوداوان يربط بهما أعيننا، و بعدما توقف البوكس في مكان ما صاح الضابط في العسكري " هاتهم يا سامي " فجذبنا بسرعة و عنف -و تمنيت وقتها أن أتحدث معه قليلاً لأستنبط من خلال حوارنا هل يعلم سامي شيئًا عن معنى أسمه- ليوصلنا أو بمعنى أدق ليسلمنا إلى من تولّوا مهمة إفقادنا الوعي. توقف شريط العرض لأعود فجأة للواقع على صوت الرجل الوقور يناديني " يا أستاذ .. يا أستاذ الجامعة " و هو مُعلّق ورائي في حالة يرثى فكاد الفضول يقتلني لأنظر لوجهي في المرآة، و بمجرد إلتفاتي له و قبل أن أرد أخذ هو زمام المبادرة في فضفضة طويلة ليحكي لي كل شيء أسعفته الذاكرة لذكره، بداية من أسمه و رتبته في الجيش قبل التقاعد لظروف مرضية إثر إصابة في التدريبات، و بعدما وجدني أنظر له بدهشة فتوقع ما يدور برأسي و ابتسم ثم نظر هو الآخر لي نظرة فاحصة ليرد بذكاء عن سؤال لم أطرحه عن الفارق الملحوظ بين السن الذي يبدو عليه و بين آخر رتبة له قبل التقاعد، و أخذ ينتقل من قصة لأخرى و يكتفي بإيماءات رأسي بين لحظة و أخرى و التي كانت في حقيقة الأمر مجرد تمرين لعضلات الرقبة، حتى وصل لما حدث بينه و بين الضابط في اللجنة حين تأخر لظروف إصابته القديمة في إبراز محفظته ليخرج الرخص للضابط و اعتبره الضابط يستهزيء به فتطاول عليه فرد هو بهدوء مخاطبًا الضابط " يابني أنا عميد جيش متقاعد مش حرامي، كلمني كويس عشان إنتَ زي ابني ماردالكش الأزية " فكان ما كان حتى وصل لمكانه ليتدلدل خلفي، و كانت المرارة تدفع بغصة في حلقه جعلت كلماته تخرج متأرجحة مثلنا حين تحدث عن أسباب موقف الضابط معه و الذي فسّره من وجهة نظرهأن هناك تهميش متعمد لسلطات الجيش أمام الداخلية منذ عشرة أعوام تقريبًا و التي زادت سطوتها أكثر بكثير بعد تعيين وزيرها نائبًا للرئيس بعدما أصبح وزير الداخلية يسيطر على كل شيء و يحرك الجميع بأصابعه على مسرح عرائس كبير يلعب رئيس الجمهورية فيه دور ضيف الشرف و يقف حوله مهندس الديكور المخضرم و منسق المناظر إياه و شوية فنيين و بس كدا، و ماتسألنيش عن المخرج عشان مافيش .. هيه كات ماشية كدا بالبركة لكن المنتج بأه كان البلد كلها .. تمانين مليون منتج بيعرق و يطفح الكوتة عشان اللي فوق يرقصوا شوية و يرقصوا فينا و ف اللي خلفونا لحد نتكسف على خيبتنا و مانحاولش نطلع ع المسرح تاني، و لم أستطع أن أسرق منه الفرصة لأتفوه بكلمة واحدة قبل أن يقاطعه صوت كلاب تنبح من خارج الغرفة، فينظر كل منا للآخر في ترقب قبل أن تبدأ زوجتي في الصراخ بوجهي " قوم بقى إحنا بقينا العصر " فأهب من السرير باحثًا عن الموبايل الذي تذكرت سرقته في أكتوبر الماضي، و إذ بي أجد نفس الكاتب و رئيس التحرير إياه يتحدث أيضًا في إحدى برامج التوك شو عن ضرورة تخليد ذكرى الشهداء و تسمية الشوارع و الميادين بأسمائهم.