أجمع مؤرخون على أن الدولة العثمانية فرضت عزلة عالمية على العرب، بحجة حمايتهم من الاستعمار الأوروبى الصليبى، وأكدوا أن أهم سلبيات الدولة العثمانية هى التسهيلات التى منحتها للدول الأوروبية التى تحولت إلى امتيازات مهَّدت للهجمة الاستعمارية الشرسة على الدول العربية بعد ذلك. يقول المؤرخ الدكتور عاصم الدسوقى إن مصر لم تشهد أى مظهر من مظاهر الحداثة طوال حكم الولاة العثمانيين حتى مجىء الفرنسيين بقيادة نابليون بونابرت إلى مصر فى يوليو 1798، سواء فى البناء الاقتصادى أو الاجتماعى ومن ثم الثقافى، يجعل المجتمع يشعر بأى شىء مختلف عما كان عليه الحال من قبل. وأضاف الدسوقى: «السلطان العثمانى حل محل السلطان المملوكى، واستمر حكم الولاة العثمانيين حكماً سطحياً دون أن يتغلغل فى أعماق المجتمع بحيث يُحدث تغييراً فى ثقافة المصريين الذين ظلوا يعيشون فى إطار تقاليدهم وثقافتهم المتوارثة، ولم تبدأ الحداثة فى مصر إلا مع حكم محمد على باشا بمقتضى التغييرات التى أحدثها فى البناء الاقتصادى والاجتماعى والثقافى، ومن ثم اكتسب لقب (مؤسس مصر الحديثة)، ولم يكن محمد على بهذه المناسبة والياً عثمانياً تقليدياً حتى ننسب ما فعله فى مصر إلى الحكم العثمانى، بل كان من بلاد مقدونيا فى البلقان، أى أحد رعايا الدولة العثمانية هناك، شأن أى مصرى آنذاك، ولعبت الظروف دورها فى توليه حكم مصر وتلك مسألة أخرى». وأوضح أن السلطان العثمانى استند فى حكم مصر إلى نظام الطوائف الذى كان قائماً فى البلاد، سواء كانت دينية أو مذهبية أو مهنية أو حرفية أو عرقية، وهو نظام كان يضم أبناء كل طائفة تحت رئاسة شيخ يختارونه ويتولى رعاية أبناء الطائفة ويقوم بهمزة الوصل بينهم وبين الوالى، مشيراً إلى أن الطائفة كانت بمثابة «الوطن» الذى يعيش فيه أبناؤه ويخلصون له ويعملون من أجله، الأمر الذى لم يجعل المصريين يشعرون بعبء السلطة الحاكمة الوافدة. وتابع: «بعد ظهور البرتغاليين فى جنوبالبحر الأحمر فى إطار حركة الكشوف الجغرافية، منع العثمانيون مرور المراكب الأوروبية فى البحر الأحمر خشية أن تكون محمَّلة بالعساكر على أن يتم تفريغ حمولتها فى ميناء المخا، وتنقل البضائع على مراكب محلية إلى السويس ومنها براً إلى الإسكندرية ثم إلى أوروبا، ورغم حسن النية وراء هذا الإجراء فإنه أدَّى إلى عزلة المصريين عما يدور فى العالم الذى كانوا يتعرفون عليه من خلال التجار الذين كانوا يقيمون فى البلاد مع تجارتهم فى رحلة القدوم والذهاب، ولم يكتشف المصريون هذه العزلة إلا مع مدافع الحملة الفرنسية». ويقول الدكتور جمال شقرة، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة عين شمس، إن الدولة العثمانية بلغت ذروة مجدها وقوتها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، واتجهت فى غزواتها أولاً ناحية الغرب ووصلت إلى النمسا وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من روما ولكنها سرعان ما تخوفت من استمرار توجهها غرباً وهى تدرك أن المنطقة العربية تعانى من ضعف واضطراب شديد، وأنها معرَّضة لغزو فارسى، حيث تسعى الدولة الفارسية منذ أوائل القرن السادس عشر لنشر الفكر الشيعى فى المنطقة، ولذلك غيرت الدولة العثمانية اتجاهها وقامت بغزو الدول العربية وحولتها إلى ولايات تابعة لها، واستمر الحكم العثمانى للدول العربية حوالى 400 سنة واحتدم الخلاف بين المؤرخين العرب والأوروبيين على الآثار السلبية والايجابية للحكم العثمانى على الدول العربية ومستقبلها. ويؤكد شقرة أن هناك إجماعاً على أن نقل الدولة العثمانية الآلاف من العمال المهرة إلى إسطنبول كان وراء انهيار وتدمير الصناعات المصرية التقليدية وتراجعها وتراجع إبداعات الطوائف الحرفية المختلفة، وأن الجريمة الكبرى التى ارتكبتها الدولة العثمانية فى حق الولايات العربية هى العزلة التى فرضتها على العرب بحجة حمايتهم من الاستعمار الأوروبى الصليبى ونبش قبر الرسول. ويضيف: «يرى المؤيدون للدولة العثمانية أنها أجَّلت وقوع الاستعمار الأوروبى للولايات حتى القرن التاسع عشر، ويعدون ذلك إيجابية من أهم إيجابياتها، والحقيقة أن هؤلاء تناسوا وتجاهلوا أن الاستعمار الأوروبى ظاهرة ترتبط بالتطور الرأسمالى للمجتمع الأوروبى، حيث ارتبطت ظاهرة الاستعمار بالنهضة الصناعية واتجاه الدول الرأسمالية إلى الاحتكار، الأمر الذى دفعها إلى احتكار الأسواق ونهب الموارد الطبيعية للولايات العربية». وأكد شقرة أن إحدى أهم سلبيات الدولة العثمانية هى التسهيلات التى منحتها للدول الأوروبية، والتى تحولت إلى امتيازات مهَّدت للهجمة الاستعمارية الشرسة، مشيراً إلى أن من أبرز إيجابياتها عدم انتهاجها المركزية فى بداية حكمها، الأمر الذى ساعد على احتفاظ الولايات العربية بشخصيتها القومية. وعن الاتهامات التى لاحقت الدولة العثمانية من تهريب الحرفيين يقول الدكتور محمد عفيفى، أستاذ التاريخ بآداب القاهرة، إن هذا الأمر أدى لتدهور الحرف، مشيراً إلى أن هذا الأمر كان عادة الدول الفاتحة آنذاك كدليل على الانتصار، وأنهم أخذوا من كل الدول التى دخلوها كالعراق وصربيا وفلسطين وسوريا وغيرهم، وأن الصناع أعجبهم الحال فبقوا بالقسطنطينية وإسطنبول وتزوجوا وحققوا نهضة هناك ولم يكونوا يريدون الرجوع. وحول ما قدمته الدولة العثمانية لمصر يؤكد عفيفى أنها لم تضف إلى مصر بل أضعفتها وأفقدتها بريق وقوة الدولة، مشيراً إلى أن مصر رغم ذلك وبما تمتلكه من إمكانات طبيعية وبشرية ظلت أهم ولاية عثمانية لدرجة أنها كانت تشكل تهديداً للدولة العثمانية، حتى إن مجد الأزهر وقوته استمدها من العصر العثمانى، وبداية ظهور شيخ الأزهر فى العصر العثمانى، وظلت مصر منارة الثقافة العربية والإسلامية، وكانت تقدم السكر والأرز لإسطنبول. وأضاف: «مصر هى التى أضافت للدولة العثمانية، وأول من حصل على لقب (خادم الحرمين) هو السلطان العثمانى سليم الأول، وقد تم إرسال الغلال والكسوة للحجاز من مصر بقرار عثمانى، باعتبار مصر أغنى دولة فى المنطقة، وقد أثرت مصر فى الدولة العثمانية فى عهد محمد على باشا كثيراً لدرجة دفعت البعض للقول إن تجربة محمد على التحديثية علَّمت الباب العالى الإصلاح». وحول أبرز فترات التردى فى العصر العثمانى تابع أستاذ التاريخ بآداب القاهرة: «فترة القرن ال18 بشكل عام كانت فترة صعبة على مصر نتيجة ضعف الامبراطورية العثمانية، وبالتالى الولاة العثمانيون على مصر صاروا ضعافاً وصارت سلطتهم أضعف من سلطة المماليك خاصة حينما حاول على بك الكبير استعادة أمجاد المماليك، وكان هناك صراع على السلطة بين المماليك والعثمانيين والحامية العثمانية وصارت السلطة الفعلية فى أواخر هذا القرن للمماليك، ومع ذلك فإن الدولة المصرية لم تضعف فى العهد العثمانى، فمصر كانت لديها مقومات تاريخية جعلتها تتصدى لهذا الضعف». ويقول الدكتور أيمن فؤاد، أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر، رئيس الجمعية التاريخية: «حدث تحول من دولة المماليك ومركز الخلافة الإسلامية منذ عهد الظاهر بيبرس، وكانت مصر تمثل دولة إسلامية قوية، وكانت هناك ثلاث قوى صاعدة فى آسيا الوسطى ومنها القوة العثمانية إثر دخول محمد الفاتح القسطنطينية وصاروا قوى صاعدة طموحة للسيطرةعلى البلقان واليونان وبلغاريا وغيرها، وبدأت القوى العالمية تظهر ممثلة فى البرتغاليين، وكان المماليك محتكرين طرق التجارة الشرقية، ومن ثم فقد بحثت هذه القوى الصاعدة عن طرق تجارة أخرى فلجأوا إلى طريق رأس الرجاء الصالح مما أثر بالسلب على إمكانات مصر وعلى الجانب الآخر كان العثمانيون يتوسعون فيما نسميه الآن العالم العربى كالخليج والشام ومصر إذن فمصر تحولت بعد دولة المماليك إلى ولاية عثمانية لكنها ولاية متميزة ذات عاصمة متميزة بعد إسطنبول». وعن عهود القوة والضعف فى عهد السلاطين العثمانيين يوضح فؤاد: «القوة تمثلت فى عهود السلاطين سليم الأول وسليمان القانونى رائد التشريع ومحمد الفاتح ومحمود الأول والثانى وعبدالحميد الأول إلى أن تم وضع حدود استعمارية لمناطق نفوذ بعد معاهدة فرساى وجاء أتاتورك ليلغى الخلافة». وحول اعتبار محمد على وإسماعيل من رجال وولاة الدولة العثمانية فى مصر قال: «محمد على دخل فى مواجهة مع الباب العالى فيما يشبه الندية ولم يكن يمانع فى أن يكون سلطاناً إلى أن حصل على الفرمان العثمانى بتوريث الحكم فى أسرته». وأكد فؤاد أنه يحسب للخلافة العثمانية أنها لم تسمح لليهود بإنشاء وطن قومى لهم فى فلسطين فى عهد السلطان عبدالحميد الثانى، وأنه سدد ضريبة رفضه بخلعه من الخلافة.