بدا واضحاً أن التأريخ للثورات لا يمكن أن يكون حقيقياً فى ذات توقيت وقوعها، يمكن فقط أن يكون منصفاً بعد مرور سنوات طويلة، قد تكون عقوداً، الآن مضى 64 عاماً على ذلك التاريخ المثير للجدل، 23 يوليو 1952، بدأنا قبل بضع سنوات فقط نقرأ سرداً آخر للتاريخ، يختلف جذرياً عن ذلك الذى تناولته المناهج الدراسية، عن ذلك الذى تصدعت به رؤوسنا، عن ذلك الذى تناولته أفلام الأبيض والأسود، عن ذلك الذى تناولته حكايا الآباء، وحواديت الأجداد، التاريخ الذى لو كان أراد أحد الترويج له فى السابق لكان مصيره غيابات الجب. مقالات متعلقة * ساونا المتحف المصرى ومرشديه * الخطاب الدينى.. بين الأزهر والأوقاف * فقه الأولويات شاعر العراق الكبير، معروف الرصافى، اكتشفها مبكراً، فقال: وما كُتب التاريخ فى جُل ما رَوَت.. لقرائها إلا حديث مُلفق نظرنا بأمر الحاضرين فرابَنا.. فكيف بأمر الغابرين نُصدق السرد الجديد للتاريخ القديم بدا أكثر سخونة هذا العام لأسباب عديدة، أهمها ذلك الربط الطبيعى مع أحداث الخمس سنوات ونصف الماضية، والتى جاء الانقسام حولها مبكراً هذه المرة، لأسباب تتعلق بتطور تكنولوجيا المعلومات، ومواقع التواصل الاجتماعى، لم يعد هناك الصحفى الأوحد، كما لم تعد هناك الصحيفة الأكثر انتشاراً، كما لم تعد هناك الإذاعة الرسمية، كما اختلفت درجة الوعى بحكم انتشار التعليم، حتى وإن كانت عبادة الفرد، مازالت حالة مصرية خالصة، تحتاج إلى منبهات كثيرة، حملت فى السابق الكثير من المرارة والشقاء، استعدنا بعدها الوعى نسبياً، إلا أن «عودة الروح» التى أرادها الراحل توفيق الحكيم، أمر بعيد المنال. ربما الآن فقط استوعبت الأجيال السابقة واللاحقة صواب موقف اللواء محمد نجيب بضرورة العودة للثكنات، استوعبت الأجيال السابقة واللاحقة أن على ابن الريس عبدالواحد الجناينى، فى فيلم «رد قلبى» ما كان يصلح أبداً للزواج من إنچى بنت الباشا، تعليقات المواطنين الآن تتمنى أن لو أجهز أحمد مظهر على شكرى سرحان، حتى لا نفاجأ ذات يوم بتنصيبه هنا أو هناك بكل العُقد النفسية التى ظهرت فيما بعد فى تصرفات معظم أقرانه. فى كتابه «كنت رئيساً لمصر» قال اللواء محمد نجيب: (إننى أول من أطلق عبارة «الضباط الأحرار» على التنظيم الذى أسسه جمال عبدالناصر، وأنا الآن أعتذر عن هذه التسمية، لأنها لم تكن اسماً على مسمى، فهؤلاء لم يكونوا أحراراً، وإنما كانوا أشراراً، وكما اكتشفت فيما بعد، أنهم مجموعة من المنحرفين أخلاقياً واجتماعياً)، ولا يخفى على أحد ماذا فعلت هذه المجموعة بنجيب لمجرد أنه عبّر عن رأيه. الثورات فى العالم كله لا خلاف عليها، اسمها ثورات، لم يختلف أحد على أن أى ثورة فى أى مكان بالعالم غيرت المجتمعات هناك إلى الأفضل، سواء تعلق الأمر بدول أوروبية، مثل فرنسا ودول الكتلة الاشتراكية، أو دول العالم الثالث مثل الهند، أو الجزائر، إلا أن الأمر اختلف لدينا فى المحروسة من كل الوجوه، بعد مرور 64 عاماً مازال الجدل محتدماً «ثورة ولّا انقلاب؟»، مازال النقاش ساخناً، المَلَكية كانت أفضل أم النظام الجمهورى؟ مازال الحديث يتجدد حول طبيعة هؤلاء الذين قادوا هذه العملية، هل كانوا على مستوى الدولة المصرية أم كانوا مجموعة من المنحرفين؟ كما قال محمد نجيب، اختلفوا فيما بينهم، ليس ذلك فقط، بل سلموا الدولة محتلة، متخلفة، السجون متخمة، والمعتقلات كذلك. بدا أن التاريخ يعيد نفسه حول 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، لم يتم حسم الأمر شعبياً حولها، إذا كانت أحداث 1952 لم يتم حسم الأمر بشأنها حتى الآن، هناك تاريخ تتم كتابته للمدارس، وتاريخ آخر للمكتبات، هناك كتب تُطبَع داخل مصر، تحصل على تراخيص فورية، وأخرى تُطبع بالخارج لصعوبة الحصول على تراخيص، هذه تتبنى وجهة النظر الرسمية، والأخرى مناوئة لا تستمر فى الخارج كثيراً، يتم تهريبها إلى داخل البلاد بمرور الوقت، الطرق فى ذلك كثيرة، المواقع الإلكترونية لم تعد تترك شاردة ولا واردة. الحديث السائد الآن حول مصر ما قبل 1952، ومقارنتها بمصر بعد ذلك التاريخ، الاقتصاد، قيمة العملة، أخلاقيات المواطن، الدور المصرى فى المنطقة، عربياً وأفريقياً، دور البلدية وحركة الشارع، نوعية التعليم، المنظومة الصحية، إلى غير ذلك مما عاصره كثيرون، وسجلته كاميرات المصورين، وبصفة خاصة دور الملك فى الحكم، وتداول السلطة بين الأحزاب، وهو الأمر الذى وجده البعض يصب فى صالح النظام الملكى، نتيجة قصور فى فكر وفهم وقدرات من جاءوا بعد ذلك ليس أكثر. بالفعل، بدا أن التاريخ يعيد نفسه، أصبحت المقارنة لا تتوقف الآن بين ما قبل 25 يناير 2011 وما بعدها، ربما حول نفس القضايا، بدءاً من اقتراح محمد نجيب بضرورة العودة للثكنات، مروراً بالوضع الاقتصادى، وأسعار السلع، وقيمة العملة، والبلديات، والتعليم، والصحة، وغير ذلك من قضايا، يراها البعض أيضاً تصب فى صالح الماضى، لأسباب عديدة، ربما لم تختلف كثيراً عن سابقتها، وهو الأمر الذى يؤكد أننا لم نستفد أبداً من دروس الماضى، بما جعل الحاضر مستمراً بنفس مناقشات الماضى. على أى حال، لنصبر 64 عاماً أخرى، ربما تتغير الأمور ويتحقق حلم محمد نجيب. اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة