لا يمكن قياس نجاح الثورات فور قيامها بل بعد فترة تتضح خلالها معالمها وتأثيرها ونتائجها، ومعروف أن للأشياء أنواعاً ثلاثة من النتائج: نتائج مقصودة، ونتائج تبعية، ونتائج عكسية. من هنا فإن تقييم أى ثورة أو صحوة أو تغيير لا يكون بقيامها، إنما بما يحدث بعد استقرار حالة الغليان وظهور النتائج. والثورات لا تحقق أهدافها لأسباب كثيرة منها ما قد يعقبها من خلافات وانقسامات بين القائمين بها، ومنها الانفلات الأمنى الذى يقود إلى فوضى، ومنها هروب الاستثمار وهجرة رأس المال، ومنها أيضاً تركيز «الثوار» على الإصلاح السياسى، فيصبح أحياناً على حساب الإصلاح الاقتصادى رغم أن الحالة الاقتصادية تكون عادة أحد أسباب قيام الثورات، إلى جانب أن التغيرات السياسية الشاملة التى تكتسح مجتمعاً ما تأتى معها بأضرار ومشاكل اقتصادية قد تصل إلى حد الانهيار، هذا بالإضافة إلى أن الإصلاح الاقتصادى ضرورى حتى يواكب الإصلاح السياسى والأهداف المستجدة، تحقيقاً للمواءمة بين الجوانب المتعددة للتنمية الشاملة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً. ويرى علماء السياسة والإدارة أن الذين يقومون بالثورة ليسوا دائماً بالضرورة أقدر من يمكنهم تحقيق أهدافها، وأن دورهم الأساسى هو فتح المجال والساحة للإصلاح وطرح الأهداف، لكن تحقيق تلك الأهداف ووضعها موضع التنفيذ يتطلب مؤهلات وكفاءات معينة وقدرات مهنية وعلمية وتكنوقراطية محددة، وإدراكاً تاماً للواقع والتحديات، والقدرة على التوفيق بين الموارد والمطالب وترشيد الاستهلاك والإنفاق وتنمية الثروة البشرية، وكثيراً غير ذلك مما له اليوم أصول وقواعد وأساليب علمية يمكن تطويعها لتناسب ثقافات متنوعة، فتحقق نفس الأهداف دون المساس بالتراث والهوية... وإلا تعثرت الثورة فى مسيرتها نحو التغيير المنشود.. أو أمكن اختطافها ممن لهم أهداف خاصة. ومن بين المحاذير التى تعرقل نجاح التغيير نتناول هنا البعد الاقتصادى، فالثورات تأتى باهتزازات اقتصادية قد تصل إلى حد الانهيار، وكثيراً ما يكون الاهتمام بالإصلاح السياسى على حساب التداعيات الاقتصادية، رغم ضرورة تطوير السياسة الاقتصادية حتى تواكب الأهداف السياسية، بما يشمل ذلك من إصلاح اقتصادى والاهتمام بالاستثمار والرأسمالية الوطنية. والرأسمالية الوطنية والاستثمار لهما تطورات جديرة بالاهتمام، فقد جاء انقلاب سنة 1952 ليقضى على الفكر الرأسمالى – أيديولوجياً ونظرياً، لكن ليس على أرض الواقع - فتمت مصادرة الأموال وانتشرت حمى التأميم وانتقلت الملكية للدولة. وفشلت التجربة. ثم جاء الانفتاح الاستهلاكى وعادت الرأسمالية بصورة مستفزة فى شكل مشروعات خاصة وقروض هائلة من البنوك، لكنها لم تقترن بالمطالب الاجتماعية والمبادئ الديمقراطية وعادت طبقية جديدة فى الظهور تحت مسمى الحرية ومحاربة اليسارية. وأخرج السادات من القمقم المارد الذى خيم بظلاله وظلامه على المجتمع. ثم انتقلنا من مرحلة الانفتاح والقروض إلى مرحلة زواج السلطة بالمال على أساس أن أصحاب الأعمال الذين يملكون أساليب العمل والإدارة التى تحقق النجاح يمكنهم تحقيق أهداف الدولة، لكن ثبت أنه افتراض غير صحيح، فالدخل القومى تزايد، لكن استفادت منه فئة معينة دون سواها، وظلت الأغلبية الساحقة محرومة تعانى وتتألم وتشعر أكثر بالحرمان، خاصة وقد ارتفع سقف توقعاتها. وبزيادة السكان وانهيار التعليم وعدم الربط بين المناهج الدراسية وأسلوب ومتطلبات التنمية زادت البطالة وزاد الغلاء وزاد الغضب وانتشر العنف بأشكاله، والتجأت أفواج الشعب إلى الأديان، بحثاً عن الأمان والراحة والانتماء. ارتبطوا بقشور الدين ومظاهره وطقوسه دون مبادئه وتعاليمه. وسط هذه الحقائق كان طبيعياً أن يعبر الغضب عن نفسه – بل كان متوقعاً – ومرة أخرى أصبحت الرأسمالية – على الأقل بصورتها الراهنة – محل هجوم شديد، لكن لم يكن الهجوم عليها كمبدأ، بل كان على زواج السلطة والمال الذى ثبت بطلانه، واليوم فإن موقف الدولة والشعب من الرأسمالية وما يتبعها من استثمار واقتصاد حر أصبح يحتاج لتوضيح واهتمام وعلاج وتصحيح وتوعية قبل أن نعود إلى واحد من السيناريوهات السابقة التى ثبت فشلها وعانت مصر منها جميعاً بكل فئاتها. واليوم علينا انتهاج المسار الوسط المتزن واختيار الطريق الثالث فنحن لسنا ضد الثراء المشروع، ولسنا ضد الاستثمار وطنياً كان أو أجنبياً، ولسنا ضد الحرية الاقتصادية المتزنة، إنما نحن نرفض الثراء الذى يقوم على الفساد والتحايل وامتصاص قوت الشعب، ونرفض بشدة زواج المال والسلطة الذى أدى إلى تفاوت هائل فى الدخول مع عدم وجود ضرائب تصاعدية.. بل إنه أدى إلى انهيار اقتصاد العالم عندما استقر وتغلغل فى الاقتصاد الأمريكى نفسه الذى كان أكثر منا رسوخاً وقوة. وقد صرح رئيس الوزراء باستمرار الانفتاح الاقتصادى واستمرار الاهتمام بالاستثمار المحلى والأجنبى، لكنى أعتقد أن الأمر يحتاج لأكثر من تصريح حتى نتحاشى الاندفاع من نقيض إلى نقيض ونعود إلى مرحلة المربع الأول مع ما جاءت به من خسائر عندما استولت الدولة أو بعض قياداتها على أموال الأثرياء وأملاك الأراضى الشاسعة وحتى لا ننقضّ اليوم على الثروات العقارية دون تمييز بين المشروعات الشرعية والشرفاء وغيرهم، وأصبح الأمر يقتضى تشكيل لجنة لتعديل السياسات الاقتصادية لسد الثغرات التى تؤدى إلى الانحراف لإنعاش الحالة الاقتصادية المتردية، وهى ضرورة لا تقل أهمية عن لجنة التصحيح السياسى. إننا نرحب بالاستثمار الذى يساهم فى زيادة الإنتاج والتصدير وإيجاد فرص العمل وحماية حقوق العمال مما يتطلب: ■ مصالحة الرأى العام مع أصحاب المال الشرفاء للقضاء على الغضب أو الحقد، وهناك أعداد كبيرة من أصحاب الأعمال الخاصة يقومون بالإنتاج والتصنيع والتصدير والبناء والزراعة وتعمير الصحراء وغير ذلك من مشروعات تستحق التشجيع. ■ العمل على جذب الاستثمار من الخارج، خصوصاً من المواطنين خارج الحدود. ■ تنظيم تقديم المطالب الفئوية لدراستها فى جهة أو جهاز متخصص وليكن مكتب «الأمبودسمان» بمجلس حقوق الإنسان الذى يرأسه د. محمد فايق أو فى إحدى إدارات وزارة العدل، التى أرى أن تكون «وزارة العدل وحقوق الإنسان». ■ تنظيم الإضرابات والاعتصامات التى تضر بالاقتصاد وتؤدى لزيادة البطالة وتسبب ارتفاع الأسعار. ■ العقاب عن الامتناع عن العمل أو عرقلته، بينما الحل يكمن فى زيادة العمل والإنتاج لتوفير الأموال اللازمة لمواجهة المطالب والارتفاع بمستوى الخدمات. لقد قامت ألمانيا من كبوتها بعد أن دُكّت دكاً فى أعقاب الحرب العالمية الثانية بفضل أمرين: أحدهما أن العمال رغم القحط الذى كانوا يعانون منه قرروا التبرع بعمل يوم أسبوعياً دون أجر «من أجل زيادة الإنتاج» وجمع الدخل فى صندوق الإنعاش الوطنى. هذا وقت العطاء وليس الشكوى لحماية الأمن الاقتصادى. لذلك أتفق تماماً مع القارئ الأستاذ عادل الفندقلى فى دعوته شباب الثورة الأصليين لرفع شعار «الشعب يريد زيادة الإنتاج».