قال صديقى مستطردا: «أنت تعلم كم أحببت أمك فى حياتها، وكم حزنت لوفاتها، ورغم مرور السنوات الطويلة ما زلت كلما تذكرتها خشعت لذكراها ودمعت عيناى. صلة من المحبة العميقة منفصلة عن صداقتنا، هل تعرف السبب؟ لأنها كانت البادئة بالمحبة، والمرء مفطور على حب من أحبه، سواء كان مسيحيا مثلى، أو مسلما مثلك، أو حتى بوذيا، الفطرة التى فطر الله الناس عليها، كنت أحبها لأنها أشعرتنى بأنها أمى، لم يحدث يوما أنها نسيت أن تهنئنى بالأعياد، فيما كنت أنت تنسى!. ويوم ظهورى الأول فى التليفزيون وعرض لوحاتى التشكيلية (ودمعت عيناه للذكرى)، وجدتها تتصل بى لتهنئنى، ثم تبدى إعجابها بها لوحة لوحة. ما زلت أذكر تأثرى بعد أن انتهت المكالمة، وأنا أمسك بالسماعة فى يدي. هل تتصور أننى نسيت يوما هذه المكالمة؟ لذلك، ودون أن أخبرك، صباح وفاتها، وحين أخذتم جثمانها إلى المسجد للصلاة عليه، فإننى وجدت نفسى أرتدى ملابسى، أركب السيارة، أنتظر واقفا خارج المسجد، بصراحة لم أحضر من أجلك، ولا اهتممت أن أجعلك ترانى، جئت من أجلها هى، كى ألقى النظرة الأخيرة عليها، وأودّعها. أما أنت فقد جئت لتعزيتك فى المساء مع سائر المُعزين، كان سرا بينى وبينها من جملة أسرار المحبة. هذه هى عُرى المحبة تنسجها الذكريات الحميمة، والتفاصيل الصغيرة المشتركة، ما يحزننى أن أبناءنا لن تتاح لهم نفس الفرصة. لن ينسجوا- مثلنا- ذكرياتهم الحميمة، لأننا نحيا فى عصر مسموم، كرياح الخماسين الصفراء التى تحمل الرمال وتجعل الدبابيس فى أعيننا. هل يذهب الشباب المسلم والمسيحى الآن معا إلى السينما مثلما كنا نفعل؟ هل سيتقاسمون معا ساندويتشات السجق وأصابع العسلية؟ هل سيبوحون بأسرارهم الصغيرة وقصص حبهم التى تفشل؟. إنها جريمة أن يفقد الإنسان الحب ويعيش فى جو مُسمّم». انتهى كلام صديقى وعاودتنى ذكريات أمى، ما زلت أذكر تلك الصداقة المتينة التى ربطت بين أمى وجارتها المسيحية فى الشقة المقابلة طيلة رحلة العمر، لم يكن ممكنا أن يمر صباح دون أن تتبادلا الحديث الودود، وحينما سافرت جارتنا إلى كندا لزيارة أبنائها لم يكن شىء ليسعد أمى مثل محادثتها هاتفيا، كان وجهها الطيب يضىء بابتسامة طالما اجتهدت كى أظفر بها، وحينما ماتت أمى جاءتنا جارتنا وقد أحنت الخطوب قامتها، ظلت تبكى أمى بكاء الأخت، بكاء من تصدعت كبدها، بكتها وبكت معها أيامها الحلوة. علاقة إنسانية من أرقى ما يكون، لم يضعف منها أن كلتيهما متدينة وحريصة على ممارسة شعائر دينها، لم تفيت أمى فى حياتها صلاة واحدة، ولم تتوان جارتنا عن الذهاب للكنيسة، وها هو العمر قد مضى وأوشكتُ أن ألحق بها، وما زالت صورة أمى فى ذهنى بطرحة الصلاة البيضاء خاشعة مبتهلة تملأ ذاكرتى. كانت تلك أيامنا الجميلة فماذا حدث لنا؟. [email protected]