في أغسطس 2013 قام ملك السويد «كارل جوستاف» وزوجته الملكة «سيلفيا» بزيارة إلى أحد المتاحف. تقدم مواطن فلسطيني وزوجته واستأذنا أفراد الحرس الملكي في أن يهديا الملك والملكة «الشال الفلسطيني»، وبعد السماح لهما تقدم المواطن وزوجته - حسب الصحيفة المراكشية - ووضعا «الشال» على كتف الملك والملكة. ستغرق بقاء «الشال» على كتف ملك السويد (33) ثانية، وفور بث صور الملك والملكة وهما يرتديان الرمز الفلسطيني بدأ اللوبي الصهيوني في نقد الصورة، وتوالت التساؤلات: «هل تغيّر موقف السويد»؟.. وتوالت سلسلة تحليلات لمكونات «الشال» ودلالاته.. من صورة «القبة العمرّية» إلى العبارة المكتوبة «أقصانا وليس هيكلهم». في تقديري، أن المواطن الفلسطيني بسام سعيد وزوجته عفاف يمثلان أصغر لوبي في العالم استطاع أن يحقق هدفًا كبيرًا.. عبر صورة مذهلة ولقطة تاريخية.. في نصف دقيقة! لقد بات إقناع العالم بحقوقنا ومصالحنا حتميًّا أساسيًا، فبعد أن أصبح الخارج جزءاً من الداخل.. لم يعد رأي العالم أو رؤية الآخر أمرًا يدخل في عداد «الإطلاع» و«المتابعة».. بل أضحى جزءًا من صميم الشؤون المحلية. في هذا السياق أود أن أطرح المعالم العشرة التالية: أولًا: لاتزال الولاياتالمتحدةالأمريكية هي القوة الأهم في عالم اليوم.. وقد تحولت العديد من دول العالم من معادلة «الصراع مع أمريكا» إلى معادلة «الصراع على أمريكا». ثانيًا: أن العالم العربي والإسلامي وفي القلب منه مصر لا يمكنه أن يغفل الحواجز الثقافية والسياسية مع الولاياتالمتحدة، ولا يمكنه أن يتجاهل عدم توازن الموقف الأمريكي إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، وعددًا من الملفات والقضايا الأخرى. ثالثاً: أن صناعة القرار السياسي في الولاياتالمتحدة تشارك فيها دوائر مختلفة ومصالح متعددة وجماعات ضغط متصارعة، ليس من بينها «اللوبي المصري» وليس من أقواها «اللوبي العربي». رابعًا: أن بعض الجماعات والقوى في مصر قد حاولت التأثير في صناعة القرار الأمريكي ولكنها لم تفعل ذلك في إطار المصلحة الوطنية وإنما في إطار المصلحة السياسية للجماعة والتنظيم، والتي جاءت مناقضة ومناهضة للمصلحة الوطنية.. وبدلاً من أن تكون إضافة للدولة المصرية أصبحت خطرًا على الأمن القومي لبلادنا. خامساً: أن الولاياتالمتحدةالأمريكية وإنْ كانت القوة الأهم في العالم إلا أنها ليست القوة الأوحد في العالم.. ذلك أن قوة الصين وروسيا ونفوذ اليابان وألمانيا ومكانة الهند والبرازيل.. حقائق لا تغفلها عيْن. سادسًا: أن مصر كانت حاضرة دومًا في القرارات السياسية لعواصم العالم الكبرى.. ولكنها اليوم أكثر حضورًا وإلحاحًا.. وقد أدت الثورتان المصريتان في يناير 2011 ويونيو 2013 إلى «عولمة» السياسة المصرية أكثر من أي وقت مضى.. وربما أكثر من أي دولة أخرى. سابعًا: أن الهدف الرئيسي لشعبنا العظيم على مدى التاريخ كان «تأسيس» أو «استعادة» الحضارة المصرية.. ولم يكن شاغل مصر في معظم تاريخها هو الطعام والشراب أو المسكن والملبس، بل كان شاغلها هو «المشروع الحضاري».. أي المكانة المادية والمعنوية للدولة المصرية.. وهي المكانة التي تحمل رسالة «فوق بيولوجية» تتجاوز المرافق والسياسات العامة ومستوى المعيشة.. هي في قولة واحدة: «الحضارة المصرية». ثامنًا: يشعر المصريون بالأسى الشديد على ما أصاب بلادهم على مدى عقود من تراجع المكانة وانكسار الحضارة.. وينظر الشعب بحالة من الحزن على «ما كان» وعلى «ما أصبح».. على الساسة الذين هزموا الاقتصاد، وعلى القادة الذين كان مكانهم الطبيعي في دائرة البطالة.. على «السياسة» التي هزمت «الحضارة» وعلى «الجماعة» التي جعلت مشروعها للمستقبل هزيمة «الوطن». .ويرى المصريون أنه حتى هنا كفى.. وأنه قد حان الوقت لوضع نقطة نهاية السطر.. والبدء في سطر الحضارة من جديد. تاسعًا: يدرك المصريون أن «الخارج» كان دومًا في حالة عداء مع بلادهم إذا ما اقتربوا حقًا من الانطلاق الحضاري.. ويعلمون جيدًا أن إدراكهم ذلك ليس من باب «المؤامرة» أو «الشعور بالاضطهاد» أو «الهوس بالأجانب» بل يعلمون أن هذه الحقيقة هي خلاصة تاريخهم مع القوى الدوليّة، حدث ذلك مع كل من حاول، من «محمد على» إلى «أنور السادات». ويؤمن المصريون اليوم أن ثورتي يناير ويونيو قد مهدّتا - بقوة وحسم - لاستئناف المشروع الحضاري المصري الذي انقطع ثلاثين عامًا.. ويتوقعون على أثر ذلك عودة «العداء» الدولي من جديد، ويزيد من قلقهم أنه للمرة الأولى في تاريخ بلادهم توجد قوة سياسية داخلية تعمل مع الخارج ضد أحلام شعبهم، وتحت دعاوى كاذبة.. وصادمة.. ليست في جوهرها إلا غطاء للتبعية والكراهية. عاشرًا: إذا كانت الأغلبية الساحقة من الشعب قادرة على تصحيح الداخل، وضبط المسار الوطني نحو الأهداف «ما بعد الاقتصادية».. فإن الخطر الأكبر يتأتي من الخارج.. ولمّا ثبت تواطؤ الإعلام الدولي وتدهور المعايير الأكاديمية لدى مراكز البحث والتفكير الغربي لأجل أغراض سياسية.. ولما ثبت أيضاً من جهل العديد من الساسة حول العالم بأبسط الحقائق في بلادنا.. لذا لزم أن نخرج إليهم.. أن نذهب إلى هناك.. لا لنشرح ونوضح.. بل لنحمي ونذود عن أحلام بلادنا. الأمر قريب جدًا مما كان يفعله أجدادنا العظام الذين كانوا يذهبون بجيوشهم خارج الحدود للقاء العدو بعيدًا.. يجب علينا أيضًا أن نذهب إلى «البعيد» لنحمي «القريب».. أن يحمي رجالنا وحلفاؤنا في عواصم الغرب مصالحنا في القاهرة. إننا لن نذهب هذه المرة لكي نهاجم أو نحارب أو أن نثير الفتنة أو نطلق الاشتباك، بل نذهب حاملين القيم الإنسانية العالمية في التعاون والسلام والرخاء. لن نكون «منافقين» لأننا فشلنا في أن نكون «محاربين»، بل نحن نحمل رسالتنا الأخلاقية الحقيقية التي طالما حملناها.. والتي صاغها ديننا العظيم وقامت على تشكيلها وحمايتها القيم المصرية والعربية الرفيعة. • قد سبق لي أن دعوت مرارًا إلى تأسيس «اللوبي المصري العالمي».. وقلت - بوضوح- لوفد اتحاد المصريين بالخارج والذي تشرفت باستقباله في رئاسة الجمهورية في سبتمبر 2013: «إن الوجود المصري العالمي قوي.. ولكن الناتج الإجمالي ضعيف.. وهو ما يفرض علينا بحث آليات تأسيس لوبي مصري عالمي لا يخضع للأيدولوجيا أو الحزبية.. بل المصلحة الوطنية والدولة المصرية». حاول نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك أن يمتلك نفوذًا في الولاياتالمتحدة، وحاول الرئيس السابق محمد مرسي الأمر نفسه.. لكن مبارك كان يبحث عن الحماية لمشروع التوريث، وكان مرسي يبحث عن الحماية للجماعة والتنظيم.. لقد حان الوقت لتأسيس «اللوبي المصري العالمي» ليس لأجل رئيس أو نظام.. بل لأجل المصلحة الاقتصادية والسياسية والعسكرية.. ومن أجل حماية بلادنا ودورنا ومشروعنا. ولقد تأملت صعود اللوبي الياباني في الولاياتالمتحدة وإنفاق اليابان بنهاية الثمانينيات 100 مليون دولار سنويًا لتمويل اللوبي بالإضافة إلى 300 مليون دولار سنويًا لتشكيل الرأى العام الأمريكي.. وقد نجحت اليابان في إجتذاب أقوى رجال واشنطن للعمل لصالحها. كما تأملت صعود اللوبي الصيني.. عبر دعم مراكز البحث والجامعات وعبر رجال الأعمال الصينيين الحاصلين على الجنسية الأمريكية.. وهم من دعموا حملة «كلينتون» مقابل تطوير العلاقات مع الصين، ثم واصلوا في عهدي «بوش» و«أوباما». ويعرف القراء الكثير جدًا عن اللوبي الصهيوني ودوره في صنع بعض السياسات الأمريكية. • ثمة ما يلفت الانتباه في هذا السياق.. إنه صعود عدد من اللوبيهات الإقليمية التي لم يكن لها ذكر من قبل. هناك اللوبي التركي الذي تم إطلاقه على نحو أوسع في عام 2010 باسم «تجمع الاتحادات الأمريكية التركية» وهناك اللوبي الإيراني الذي يمثله «المجلس الوطني الإيراني الأمريكي» والذي ساهم كثيرًا في التقارب الإيراني الأمريكي في عهد روحاني.. وقد روج له موظف الاستخبارات الأمريكية السابق روبرت بير في كتابه "الشيطان الذي نعرفه". ويتحدث الإعلام الغربي عن اللوبي الكردي العراقي الذي تأسس بقيادة نجل الرئيس العراقي قباد جلال طالباني، والذي قدم عرضًا مباغتًا للجنرال ديفيد بترايوس ليكون مستشارًا أول ل«مسعود برزاني».. إضافة إلى مستشارين سابقين مثل "زلماي خليل زادة" و"جون أبي زيد". إذن لم يعد اللوبي الإسرائيلي وحده هناك، بل لوبيهات شرق أوسطية.. تتصارع على عقل واشنطن دون هوادة. • ثمة ما يلفت الانتباه أيضاً.. أن هناك لوبيًا سعوديًا وآخر إماراتيًا وثالث فلسطيني.. هي الأقوى بين اللوبيهات العربية.. وقد أظهرت ثورة يونيو المجيدة أهمية تحالف اللوبيهات العربية وأهمية إعادة تأسيس لوبي عربي كبير. • إنها الحاجة إذن إلى تأسيس لوبي مصري عالمي.. وتأسيس شبكة للتنسيق بين اللوبيهات العربية في أمركيا والعالم. ولا يتأسس ذلك لأجل أهداف محدودة أو سياسات قصيرة المدى.. بل لأجل أهداف دائمة واستراتيجيات مستمرة. • وإنني واحد ممن يرون أن ذلك ممكنًا للغاية.. وأن سوء الحظ الذي لازمنا بوجود اللوبي العكسي.. أي انخراط بعض الأكاديميين والباحثين والإعلاميين المصريين في الولاياتالمتحدة في العمل بمثابة لوبي أمريكي في مصر بدلًا من أن يكون لوبي مصر في أمريكا.. يمكن لسوء الحظ هذا أن ينتهي.. ذلك أن حفنة الأسماء من المصريين الأمريكيين الذين لمعوا في الإعلام المصري والغربي لانبهارهم بالخارج وإنتمائهم ل«الآخر».. يمكن إغراقهم وسط فيْض غزير من كفاءات مصرية رفيعة تعيش بنجاح في الخارج وتعيش بوفاء وإخلاص للداخل. • لقد نجح اللوبي الهندي في تغيير الصورة الذهنية للهند.. من الفقر والجوع والجريمة إلى السينما واليوجا والبهجة.. ولكن المحسوبين على مصر خارجها.. ساعدوا في تكريس صورة سلبية عن بلادنا.. خوفًا من فقدان وظيفة أو بحثًا عن نصف دولار! • حان الوقت لإسقاط اللوبي الأمريكي في مصر وإطلاق اللوبي المصري في أمريكا.