منذ أن سافرت لندن لأول مرة عام 1970 وقضية الانتماء تلح علىّ، ذلك لأننى شاهدت هناك شبابا يقضون الصيف فى غسل الصحون وفى مساعدة الطباخين فى تقشير البطاطس وكنت أسألهم سؤالاً واحداً: - لماذا لا تفعلون نفس الشىء فى مصر؟ فكان ردهم واحداً تقريبا: - نتكسف!! فكنت أقول لهم: - يعنى غسل صحون الإنجليز أحسن من غسل صحون المصريين! وفشلت فى إقناعهم بالعمل فى فنادق مصر بدلاً من الغربة التى تنتهى بحقيبة بها كام بلوفر على كام بنطلون جينز من «سان مايكل» على بلوزات للأخوات وشالين لماما وجدتى ولعبتين لأطفال العائلة ويأتى الصيف وقد دخل كل منهم جمعية أو دبر نفسه ليشترى تذكرة السفر وكانت وقتها تذكرة شبابى موحدة من مصر للطيران ب84 جنيها رايح جاى!! حكايات كثيرة تقطع القلب على الشباب الذين يسافرون ويصبح انتماؤهم للهامبورجر والفراخ المقلية أكثر من انتمائهم لمصر بكل ما فيها.. ظلت قضية الانتماء تلح علىّ حتى قمت بعمل مسابقة للأطفال تحت عنوان «ارسموا مصر واكتبوا عنها» وكنت آخذ الفائزين العشرة فى رحلات إلى سيناء المحررة أولاً ثم الإسكندرية والأقصر وأسوان والفيوم والغردقة وغيرها من مدن مصر، كنت أقدم هذه الرحلات بالاشتراك مع هيئة الاستعلامات فى عصرها الذهبى أيام الدكتور مرسى سعد الدين ثم فى عصر الواعى لأهمية تربية الطفل منتميا للوطن السيد صفوت الشريف، فقد طلبنى فور توليه منصبه رئيسا للهيئة وقال لى: - عاوزين نستمر فى مسابقة ارسموا مصر، ثم تسلمها واع وذكى آخر هو دكتور ممدوح البلتاجى، وظلت المسابقة حتى منتصف الثمانينيات، ولكن لم يكن الانتماء هو التنقل فى ربوع مصر فقط بل الانتماء قضية خطيرة ومحتاجة لمشروع قومى ومتابعة تربوية واجتماعية وسياسية ألحت علىّ قضية الانتماء وأنا أقرأ أعمال أطفال من 12 دولة عربية الذين تقدموا فى المسابقة الأدبية للأطفال العرب تحت شعار «تنمية الإبداع لدى الطفل» التى أقامتها إدارة الأسرة والطفولة فى جامعة الدول العربية.. ألحت على قضية الانتماء لأنى وجدت فى أعمال الأطفال تأثرا شديداً بالفضائيات الأجنبية والفضائيات العربية أيضاً التى همشت الطفل بإصرار وترصد.. فكل البيوت فى المسلسلات وكل الملابس وكل القصص غريبة، ناهيك عن الرقص والغناء كلها مستوردة.. لا يوجد بيت له عمارة عربية مميزة اللهم إلا بعض بيوت دمشق القديمة ذات النوافير وصحن الدار المزروع بالفل والياسمين وتعرض فى قصص التراث. ناهيك عن كلمات الأغانى المليئة بالخلاعة والأشواك.. تعبنا وأرهقنا أيما إرهاق لنختار من مائة وثلاثين عملا اثنى عشر عملا لتنال الجوائز!! كانت لجنة التحكيم مكونة من: الأستاذة ندوة النورى أستاذة اللغة العربية السورية، والأستاذة حصة العوضى، كاتبة الأطفال والكبار القطرية الشهيرة، وهى خريجة إعلام القاهرة وتلميذة ملك من ملوك الصحافة هو أستاذى الراحل جلال الحمامصى كما تتلمذت على الدكتورة جيهان روشتى، وأنا.. كنا ثلاثة وكان الإرهاق رابعنا. أرهقنا أيما إرهاق: فإذا كان المعنى جميلا كان النص باللغة العامية وخرج عن شروط المسابقة وإذا كان النص جميلا كان المعنى ينصب على حالة من الوجد والحب والأشواق تفوق صبابة قيس بن الملوح وليلى!! أطفال قتلت طفولتهم تحت سياط الفضائيات وإلحاح الجريمة العالية الساخنة من العلاقات المريضة والحب المحرم وندرة الحلال فى كل الحالات!! أحس أن إدارة الأسرة والطفولة تحرث فى البحر وأن تشجيع الأمين العام للجامعة العربية لمثل هذه المسابقات جزء من طوق النجاة.. ولكن ليست المسابقات وليس الاحتفال بقطر عاصمة الثقافة العربية، كل هذه شعارات وفرقعات فى الهواء.. والأطفال مضيعون فعلا فما بالك ونصف الدول لم تبال بالاشتراك؟! وحتى التجمع الذى تبنته الجامعة العربية فى قطر لم يزد عدد الأطفال فيه على 120 من صغار 16 دولة عربية أى أنه أكثر من نصف أطفال الدول العربية بقليل! وكان لابد من توصيات حتى نتخلص نحن الثلاثة من ذنب هؤلاء الأطفال ودبجنا توصيات ولكنى أحسست أننى أكتب لمجرد إخراج زفرة حارة من القلب.. يا سادة يا حكام العرب.. أنقذوا أطفالكم بمشروع قومى يخرجهم من براثن التغريب.. أنقذوهم لتنقذوا الزمن القادم.. والله يعطيكم العافية!