ليس هذا تعليقاً أو تعقيباً على حكم محكمة الجنايات بمعاقبة رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى بالسجن بدلاً من الإعدام كما فى الحكم السابق، ونظراً لأن حيثيات الحكم لم تنشر بعد، فمن السابق لأوانه التعليق على الحكم، ولكنى أود أن أشير إلى ما ورد فى الصحف المصرية على لسان رئيس المحكمة، فقد جاء فى الأهرام بتاريخ 29 سبتمبر 2010 وفى الصفحة الأولى «أكد رئيس المحكمة المستشار عادل عبدالسلام جمعة أن المحكمة استخدمت الرأفة مع المتهمين عملاً بنص المادة 17 من قانون الإجراءات الجنائية نظراً لتنازل أسرة المجنى عليها عن الدعوى المدنية وإرسالها صورة رسمية من هذا التنازل». وجاء فى الجريدة نفسها فى اليوم التالى أن مصدراً قضائياً بارزاً أشار إلى أن «المحكمة استخدمت الرأفة مع المتهم الثانى هشام طلعت بعد تنازل أولياء القتيلة عن دعواهم». وقد أثار هذا الحديث فى نفسى شجوناً قديمة عندما كنت طالباً فى كلية الحقوق فى الخمسينيات من القرن الماضى- وقبل أن أنتقل إلى مهنة الاقتصاد- وتذكرت ما كنا نسمعه من كبار أساتذتنا، فى ذلك الوقت، عن مفهوم الجريمة فى العصر الحديث، فالجريمة فى المجتمعات البدائية هى اعتداء على الضحية، وعليه أو ذويه أن يقتصوا من الجانى، بعقابه أو عقاب أهله بالمثل أو أكثر، فالعقاب هو نوع من الثأر من الضحية أو ذويه ضد الجانى، وهو يقتضيه بنفسه، وهذا هو ما يطلق عليه «نظام العدالة الخاصة» وحيث يقتضى الفرد بنفسه حقوقه ممن اعتدى عليها، ومن هنا فإن عادات الثأر مازالت فى كثير من البلدان- وربما فى مصر خاصة فى الصعيد- هى إحدى بقايا هذه المفاهيم القديمة للجريمة. وقد تغير هذا المفهوم البدائى للجريمة فى العصر الحديث، فالجريمة لم تعد اعتداء من الجانى على الضحية فقط بل أصبحت اعتداء على حقوق «المجتمع» فى العيش فى أمان، ولذلك فإن «المجتمع»- ممثلاً فى النيابة العامة- هو الذى يقوم برفع الدعوى نيابة عن «المجتمع» فى مجموعه، وعندما يصدر الحكم- باسم المجتمع- فإن الدولة وحدها هى التى توقع العقاب، فالعقاب هو حق للمجتمع وليس مجرد حق شخصى للضحية أو لذويه، ومن هنا لا يجوز للضحية أو ذويه اقتضاء حقوقهم بأيديهم بل لابد من الالتجاء إلى السلطات العامة لاقتضاء حقهم وحق المجتمع. ومع ذلك فقد اعترف القانون المعاصر أيضاً بحق المجنى عليه أو ذويه فى المطالبة بالتعويض لما لحقهم من ضرر، وهذا هو «الحق المدنى»، ويمكن الحصول عليه أيضاً من خلال المحاكم، أما حق «المجتمع» فهو حق ثابت ولا يجوز التنازل عنه حتى إذا قبل المجنى عليه أو عائلته (أولياء الدم) التصالح، فحق المجتمع لا يقبل التنازل. ولكل ذلك، فقد شعرت بشىء من الدهشة لما قرأته عن أسباب الرأفة وتخفيف الحكم، إشارة إلى المادة 17 من قانون الإجراءات الجنائية (الصحيح هو قانون العقوبات) التى تنص على أنه: «يجوز فى مواد الجنايات إذا اقتضت الجريمة المقامة من أجلها الدعوى العمومية رأفة القضاء تبديل العقوبة على عقوبة الإعدام بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة». والمفهوم وفقاً لما تقدم عن مفهوم الجريمة المعاصر أن تكون مبررات الرأفة متعلقة بنظرة المجتمع إلى الجريمة وتأثيرها على أمن المجتمع واستقراره، أما حقوق المجنى عليه أو ورثته فأمرها منوط بالحق المدنى، وليس بطبيعة العقاب ودرجته، الذى هو حق المجتمع وحده. قد تتم تسوية مع أسرة المجنى عليها وبما يحفظ أو يعوض عن حقوقهم، ولكن من يحفظ حقوق المجتمع؟! هذا ما أردت الإشارة إليه بالتذكير على طبيعة الجريمة فى العصر الحديث كاعتداء على المجتمع، قبل أن تكون اعتداء على المجنى عليه، وهذه كلمة ليست بسبب الحكم الصادر بقدر ما هى ملاحظة بمناسبته.. والله أعلم.