أعلنت الأممالمتحدة عن قيام المحكمة الدولية الخاصة بلبنان فى أول مارس 2009. وكما تعودنا خلال السنوات الثلاث الماضية، ثارت عواصفُ متضاربةٌ بشأن المحكمة قياماً ومساراً، وبشأن إمكانية توصلها إلى نتائج تتعلق بكشف حقيقة الجرائم المرتكبة بدءاً باغتيال رفيق الحريرى، والسياسيين والإعلاميين والأمنيين الآخَرين الذين جرى اغتيالهم بعده، وفى السياق نفسِه. ولكى نستطيع تقدير معنى وأهمية المحكمة والمحاكمة، تنبغى العودة قليلاً إلى الوراء، وقراءة الأصول والخلفيات التى دفعتْ بها وإليها. فقد عرف لبنان فى تاريخه الحديث عشرات جرائم العنف والاغتيال السياسى. وباستثناء رياض الصُلح، ما جرى التحقيق فى أى من الجرائم السياسية تلك، أو أنّ التحقيق ما توصَّل لنتيجة. لكنْ منذ أواسط السبعينيات - تاريخ الدخول العسكرى السورى إلى لبنان - حامت الشُبهة دائماً حول السلطة السورية، طبعاً باستثناء الرئيس رشيد كرامى الذى اتُّهمت «القوات اللبنانية» باغتياله. إذا كان الترقُّب على مشارف انتخابات 2005، أحد أسباب اغتيال الحريرى؛ فإنّ قيام المحكمة قبيل انتخابات 2009، سيكبح الجناة عن العودة لذلك. قبل الحرب الأهلية عام 1975 كانت الاغتيالات تحدث فى سياقين متوازيين، داخلى وإقليمى؛ خاصة للشخصيات البارزة، بمعنى أنّ المحاور العربية، ومواقف الساسة اللبنانيين إزاءها كانت عاملاً مؤثّراً فى الاغتيال. أمّا بعد التدخل السورى فى لبنان، فكانت الشخصيات المُغتالة ذات مواقف من الوجود السورى بلبنان، بنظر السلطات السورية على الأقلّ. لكنْ رغم هذا السياق العامّ؛ فإنّ اغتيال الحريرى كان له سياقُهُ الخاص. فالمعروف أنّ الرئيس الراحل حافظ الأسد اشتدّ عليه المرض بعد عام 1997، وأنّ ابنه - الرئيس فيما بعد - بشار الأسد، بدأ يُعدُّ العُدّة لخلافته، ومن ضمن ذلك الإصرار على المجىء بالعماد أميل لحود، قائد الجيش اللبنانى إلى الرئاسة بلبنان، ثم الإصرار على التمديد له بعد نهاية ولايته الأولى عام 2004. وفى عام 2000 انسحب الإسرائيليون من لبنان إلى الحدود الدولية باستثناء منطقة مزارع شبعا للإشكالية القائمة حولها بين سوريا ولبنان. فازدادت الضغوط على السوريين للانسحاب من لبنان إذ لم يبق مبررٌ لذلك داخلياً، أو يتّصل بالصراع العربى - الإسرائيلى. وكان الطرف المسيحى، والذى يضم البطرك والجنرال عون و«القوات اللبنانية»، هو الأوضح معارضةً لبقاء الجيش السورى فى لبنان. وكانت القوى اللبنانية المتحالفة مع السوريين (ومنها «حزب الله» و«أمل») تُعارضُ ذلك وتتصدّى له. بينما كانت وجهةُ نظر الحريرى أنه يمكن تدبير الأمر بالاتفاق مع السوريين للانسحاب إلى البقاع من جهة، وتخفيف التدخل فى الشأن اللبنانى الداخلى من جهةٍ أخرى. ورغم الضغوط المتبادَلة، وبينها اللبنانى الداخلى والإقليمى والدولى؛ فإنّ السوريين ما انزاحوا قيد أُنملة، وأعطوا إشارةً واضحةً فى ذلك بالإصرار على التمديد للرئيس لحود، وازدياد التدخل فى مفاصل الإدارة الداخلية والأمنية اللبنانية. وفى الوقت ذاته جاء القرار الدولى رقم 1559، والداعى للانسحاب السورى من لبنان، ليزيد من هواجس السوريين، وإحساسهم بإمكان فقد لبنان. وزاد الطين بلّة أنّ لبنان كانت أمامه انتخاباتٌ نيابيةٌ فى ربيع عام 2005، وكان «الاستقلاليون» المسيحيون، والذين كان رفيق الحريرى يتجه للتحالُف معهم - يؤمّلون الحصول على الأكثرية فى البرلمان. وفى هذا الظرف بالذات تم اغتيال الحريرى فى 14 شباط (فبراير) 2005. وأمام هذا المدّ الشعبى الزاخر (ثورة الأرز أو 14 آذار) ما كان من الممكن عدم التحقيق فى اغتيال الحريرى ورفاقه. بل إنه صار واضحاً أنه إنْ لم يطمئنّ الجمهور إلى «العدالة»؛ فإنّ النظام العامّ قد يتهدد. لكنّ جبهة 14 آذار، وازتْها جبهة 8 آذار الموالية لسوريا ووجودها أو نفوذها. ووسط هذا الانقسام الحاد، ما كان من الممكن للقضاء اللبنانى أن يقوى بمفرده على معالجة هذا الملف، خاصة بعد أن استمرت الاغتيالات وأحداث التفجير، والتهديدات العلنية بالقتل والتصفية من هذا الجانب أو ذاك. ما معنى المحكمة وما دلالاتها؟ بالطبع كان للمحكمة سياقُها أو سياقاتُها. فمقتل الرئيس رينيه معوَّض عام 1990 ما أدّى إلى تحقيقٍ دولى أو حتّى لبنانى جادّ. فبعد عام 2000 كان مطلوباً دولياً وإقليمياً من سوريا أن تخفّف وجودَها العسكرى والأمنى داخل لبنان، وأن تكتفى بالنفوذ السياسى من خلال أنصارها (وهم كُثُر). لكنّ السوريين رفضوا الحديثَ فى ذلك. ثم إنهم أصرُّوا على الإبقاء على لحود. ولا يمكن بدقّةٍ اليومَ معرفةُ ما كانوا هم وأنصارُهُم يفكرون فيه آنذاك. هل كانوا يعتقدون وسط سيطرتهم على الأمن والقضاء بلبنان أنّ الاغتيال سيكون أثره خفيفاً كالأحداث السابقة؟ إذا كانوا يعتقدون ذلك فهم مخطئون فى التقدير، لأنّ «تكليفهم» بالوجود فى لبنان سُحب منذ عام 2000. ثم إنّ الجمهور المسيحى كان ضدَّهم منذ مدة، ومقتل الحريرى سيجعل المسلمين أيضاً يتحولون ضدَّهم. وبذلك فقد أخطأ تقديرهم بالخارج والمحيط والداخل. ومن جهةٍ أُخرى فإنّ الحياة السياسية اللبنانية ما كان يمكن لها أن تستمرّ، أى أن يستمرّ النظام؛ إن ظلَّ السياسيون جميعاً مهدَّدين استناداً إلى مواقفهم العلنية من هذا الطرف أو ذاك. ولذلك فقد وُجدت للاستقلال سياقاتُهُ الإقليمية والدولية والمتجلية فى ضرورة خروج السوريين من لبنان. وإذا كان يُرادُ أن يبقى النظام اللبنانى قائماً على قدميه؛ فقد كان لابُدَّ من الوقوف فى وجه الجرائم ضد السياسيين، أو ينهار النظام أو يتغيَّر، بحسب ما كان مقرَّراً له، قبل الخروج العسكرى السورى. إنّ المحكمة سواء أكانت دوليةً أم محليةً لن تُحدث عجائب. فالموتى لن يعودوا. بيد أنّ الله سبحانه وتعالى يقول: «ولكم فى القصاص حياةٌ يا أُولى الألباب». فمتابعة العمل على كشف الجُناة أدَّت إلى استمرار الحياة الوطنية والسياسية، وبعثت الأمل فى إمكان الخروج من الدوّامة: النزاعات الداخلية المسلَّحة، والاغتيالات والتفجيرات. والذين يحاولون التأثير على مجريات الحياة السياسية بلبنان عن طريق القتل، يعرفون الآن أنّ أفعالهم ستنكشف، وقد يُحاسَبون عليها. وإذا كان الترقُّب على مشارف الانتخابات النيابية عام 2005، بين أسباب اغتيال الحريرى؛ فإنّ الإعلان عن قيام المحكمة، على مشارف انتخابات عام 2009، قد يدفع الذين مارسوا العنف من قبل، دونما رادع، أن يفكّروا مرتين قبل العودة لذلك. المصدر: جريدة الاتحاد الإماراتية