انتهت الجولة الأخيرة من حرب فلسطين. وكما كان متوقعا، انصرفت الأنظار والكتابات عما يحدث هناك فى الإعلام المصرى بشكل مفاجئ وفورى. يرجع ذلك لعدة أسباب، معظمها يصب فى نوعية المنهج المستخدم فى التعامل مع الأحداث. لأن التركيز المكثف كان دائما على الصور العابرة. صحيح أن ذلك قد يكون من الطبيعى، نظرا لدموية وعنف الأحداث، لكن ما يمنع محاولة التحليل العقلانى، الذى يحاول فك معطيات الواقع، ثم الربط بينها على أساس التجربة والمنطق وليس عن طريق الشعارات العامة والشجب والندب الذى لا يفيد فى فهم ما يحدث، وترتيبه وشرحه فى سياق منهجى منظم طويل المدى، يتناسب فى جديته وعمقه مع حقائق صراع معقد متعدد الجوانب، منها الملموس السياسى والعسكرى وأيضا ال»عائم»، أى الفكرى والايديولوجى والنفسى. إن لغة الشعر والخطابة التى يتبناها الكثير من الساسة والمعلقين فى العالم العربى لوصف الاحداث تصلح فقط للتعبير عن المشاعر اللحظية التى تسيطر فيها الصور الدموية المذهلة والعجز العربى العام المصاحب على وجدان البشر، لكنها لا تفيد فى فهم ما يحدث فى إطار جاد. بالإضافة، فإن هذا الخطاب يعكس إطارًا فكريًا يسير فى دائرة مغلقة. أولا هناك الحدث، ثم يتم تحويل هذا الحدث لنسخة مختلفة مغايرة، باستخدام لغة الأساطير والشعر، عن طريق الكناية والتشبيه الرمزى غير الملموس والإيحاء، ثم على هذا الاساس يتم ربط أحداث الحاضر بتاريخ الصراع. ثم يتم التعليق على هذه الصوره، باستخدام نفس اللغة، حتى من قبل من انتقدوا بشدة هذا الأسلوب واعتبروه من رواسب الحقبة ال«قومجية» وتراثها.. والنتيجة هى ضياع تفاصيل معطيات الواقع بين الكم الهائل من التعليقات والصور المصنوعة، التى ترجع وتستند وتعود إلى بعضها البعض. ولأن معظم هذه التعليقات يفتقد المنطق الصارم، او المنهج النقدى أو التجريبى الذى يمكن من خلاله اختبار مدى صحتها فى شرح ما يحدث فعلا وليس فقط الهجوم الهمجى على من اختلف فى الرأى أو الرؤية، فإن النتيجة النهائية هى بالضرورة الابتعاد عن نسق الواقع على الارض، وسط الكم الهائل من التعليقات والمجادلات التى لا ترجع إلى الاحداث نفسها إلا عن طريق التركيز الوقتى على الصور الدموية والدمار دون وضع ذلك فى سياق منهجى تفسيرى يساعد على التحليل والربط وفهم الاسباب التى تدفع وتحرك الاحداث، والفصل بين ما هو مهم فعلا فى إطار محاولة عقلانية للفهم والشرح- اى يمكن على أساس افتراضاته ليس فقط فهم الظرف الآنى إنما أيضا توقع معطيات المستقل، ولو جزئيا على الاقل فى بعض الاحيان- وما هو واهٍ، أى مخترع من خلال التصورات التى يفرضها الخطاب السرابى المسيطر. إن غياب مثل هذه المنظومة الفكرية هو الذى يجعل من غالبية العرب، انظمة و مفكرين، دائما فى وضع دفاعى، بالإضافة، فإن الخطاب النابع عنها لا يساعد أبدا على التواصل مع العالم الخارجى، لانه ناتج من تصور منطوٍ على الذات، لان فكره المطلق، الأحادى البعد والاتجاه، لا يحاول فهم كيف ينظر العالم الخارجى، الذى يضع معطيات الواقع فى سياق مختلف بالطبع.. وفى غياب هذا الفهم لا يمكن الرد على ما نعتبره من المغالطات او الادعاءات التى يرددها الاخر، فلا وجود لإمكانية التحاور او الشرح أو الإقناع فى ظل غياب لغة مشتركة. فالمهنج العقلانى الغائب هو الذى يمكن أن يوحد نظرة الناس للعالم والتواصل مع الآخر. تماما كما يمكن لاى عالم فى العالم فهم النظريات الرياضية والعلمية، والتحاور مع المجتمع العلمى العالمى عنها فى مؤتمرات ومنتديات علمية، إنما يصعب على شخص لا ينتمى لامة او قبيلة معينة، ولم يترب على الاساطير القومية المؤسسة لها فى نظر القوميين فيها، بالإحساس ب»روح» تلك الامة ووجدانها فى نظرهم. فالعقلانية الكونية هى التى توحد العالم وليس الأساطير الخصوصية. الخلاصة هى أن المأزق العربى فى التعامل مع المشاكل الاقليمية ليس كامنا فى توازن القوى العسكرى أو السياسى فقط، إنما التفسيرى ايضا. لان المنهج المستخدم عامة فى تفسير الاحداث لا يفيد الكثير فى فهمها، او الاستفادة واستنتاج الدروس مهنا، أو حتى التعبير عنها أو شرحها بصوره مفهومة خارجيا. هذه العزلة الذهنية والانطواء الفكرى يؤديان لتفاقم وتضاعف المشاكل الناتجة عن توازن القوى، لان المنطق والحجة والقدرة على شرح الحقائق بوضوح هي أقوى الاسلحة فى ظل خلل الموازين الفعلية للقوة. هكذا انتصرت حركات التحرر الوطنى فى الماضى.. وهذا بالتحديد ما يفشل فيه الفلسطينيون ومساندوهم العرب. ac.otnorotu.atic@rma