قطعاً إسرائيل لم تنتصر، لكنها لم تُهزم، والمؤكد أن حماس لم تنهزم، لكنها لم تحقق انتصاراً واضحاً، ربما لم تحقق إسرائيل أهدافها المعلنة بالقضاء على حماس كسلطة فى غزة وكمشروع مقاومة، لكن حماس أيضاً لم تحقق حالة الردع التى تكفى لتأمين أهالى غزة من مصير كمصير من سبقوهم قتلاً وحرقاً ودماراً. فشلت إسرائيل ومن معها فى تحقيق انتصار عسكرى خالص، فى تأكيد جديد على أن الدولة العبرية باتت عاجزة عن حسم أى معركة عسكرية على الأرض، وفشلت حماس ومن معها فى تكبيد إسرائيل خسائر موجعة تدفعها للتفكير ألف مرة قبل أن تحاول تكرار هذا العدوان. لكن الطرفين اللذين عجزا عن الانفراد بنصر أو هزيمة نجحا سوياً فى شىء واحد - بات واضحاً وجلياً بعد انتهاء المعارك وتوقف آلة القتل الإسرائيلية - وهو هزيمة مصر. الأرجح أننى لن أفاجئك حين أخبرك أن مصر كانت أكثر الأطراف الإقليمية خسارة فى هذه المعركة المعقدة والمتشابكة الأطراف، وحتى تحيط بذلك عليك أن تسترجع ما حدث. نجحت إسرائيل فى استدراج حماس إلى تقديم ذرائع قوية لهجومها، وهى ذرائع حتى لو كنا نعتقد أن إسرائيل لم تكن تحتاجها فى عدوانها، إلا أن الحقيقة أنها استفادت منها فى ترويج عمليتها العسكرية غربياً، وبالتالى الحصول على ضوء أخضر «ضمنى» بتنفيذها، واستفادت فى سبيل ذلك من سذاجة القرار السياسى لدى حركة حماس، الذى قدم لها الذرائع على طبق من ذهب، ودفع العالم كله للحديث عن ضرورات وقف تهريب الأسلحة وإطلاق الصواريخ. ونجحت حماس والأطراف المتحالفة معها فى تحقيق «تسخين مطلوب» فى المنطقة، وجه رسالة إيرانية لأوباما أنها تملك مفاتيح إشعال المنطقة وتهدئتها، ورسالة سورية لإسرائيل أن زمن حسم جيشها لمعاركه على الأرض انتهى، ورسالة حمساوية للعالم أنها الطرف الأقوى فلسطينياً والأحق بالحديث باسم القضية، وبالتالى تحريك قضية غزة وطرح مسألة فتح المعابر وفك الحصار على جميع الموائد التى تلوك قضية الشرق الأوسط بالبحث أو التفاوض. لم يكن هدف إسرائيل الحقيقى هو تدمير حماس وإخراجها من غزة، كما تم إعلانه إسرائيلياً وحمساوياً، بقدر ما كان إخضاعها وتقليم أظافرها وفرض مراقبة دولية على تهريب الأسلحة وإطلاق الصواريخ، مع ضمان بقاء حماس سياسياً فى غزة ضماناً لتكريس حالة الانفصال التى تبتعد بالحل النهائى للقضية الفلسطينية سنوات وسنوات، لابد أن يقضيها الفلسطينيون أولاً فى حسم مسألة تمثيلهم، والتوصل إلى تسوية فلسطينية فلسطينية أولاً. ولم يكن هدف حماس هو تحقيق انتصار عسكرى مدو على إسرائيل، بقدر ماكان تحريك الملف ودفع المجتمع الدولى إلى التحرك تحت ضغط مشاهد المجازر الوحشية لوقف العدوان، فى الوقت الذى تكون فيه حماس قد وطدت مواقعها سياسياً فى غزة، وفرضت تسوية لا تتجاهل فتح المعابر وإنهاء الحصار، بما يعنى منح حكمها لغزة مزيداً من القدرة على البقاء. لن تجد إسرائيل ظرفاً أفضل من ذلك، فلا تصدق أن لها مصلحة فى القضاء على حماس وإنهاء الانقسام الفلسطينى، رغم أن فى يديها دعم هذا الانقسام، وإبقاء الحال الفلسطينى على ما هو عليه (حكومة فى الضفة، وحكومة مناوئة فى غزة) وفى الوقت نفسه ضمان نزع مخالب حماس بتهدئة طويلة وآليات دولية تضمن وقف تسليحها، وبذلك تنال إسرائيل الحسنيين (أمن جنوبى بإنهاء التهديد العسكرى لحماس، وأمن سياسى بإبقاء حالة التشرذم الفلسطينى قائمة بلا حل). ربما أدركت الآن أن هذه الحرب كانت موجهة فى جزء كبير منها ضد مصر، ولهذا أتحدث معك على أن مصر أكبر الخاسرين وربما المهزوم الوحيد فى تلك الأزمة، رغم كل ما بذلته من جهد، خاصة فى الأيام الثلاثة السابقة على وقف إطلاق النار، دعك من الحديث عن الهزيمة الإعلامية التى باتت غير مشكوك فيها، بعد أن نجحت آلة القصف الإعلامية العربية بشكل مباشر فى النيل من سمعة مصر ومصداقيتها ونزاهتها، وتوازى معها نجاح وسائل الإعلام الإسرائيلية بشكل غير مباشر - وإن كان مقصوداً - فى تسريب أنباء، والترويج لمعلومات بين الصواب وبين الخطأ، تدعم تلك الشكوك فى الدور المصرى. وبعيدًا عن الهزيمة الإعلامية أنظر لنتائج المعركة على الأرض، لتدرك أن إسرائيل نجحت فى تدويل قضية أمنها، وشكلت تحالفاً دولياً غير مسبوق يستثنى مصر، ويعمل تحت أنفها، ويمارس رقابة دولية على عمليتى تهريب الأسلحة وإطلاق الصواريخ، لذلك كان الاتفاق الأمنى بين رايس وليفنى. وجاءت المدمرة الفرنسية لتستقر أمام سواحل غزة وعلى مرمى البصر من المياه المصرية، وأصبح حلف ال«ناتو» أقرب إلى المنطقة الحدودية، ويكاد ينفذ بين الجلد واللحم، وأصبح الضامن لهدوء جبهة إسرائيل الجنوبية، وهذا هو الهدف الحقيقى لما ارتكبته من مجازر فى غزة. وفى المقابل فقدت مصر نفوذها فى غزة إلى حد كبير، بعد تثبيت حماس لدعائم حكمها للقطاع، وفشل مصر طوال السنوات الأخيرة فى احتواء الحركة والدخول فى دوائر استقطابها وتقريبها بعيداً عن المحاور المناوئة لدورها، ودخولها فى حالة مواجهة سياسية معها قبل العدوان وأثناءه، زكتها الحملات الإعلامية، وألهبتها «شعبياً» مشاهد المجازر الإسرائيلية فى القطاع، ففقدت حميمية الصديق وتوازن الوسيط فى آن واحد. كانت حرب غزة هى حرب الأهداف غير المعلنة، تلاقت خلالها مصالح جميع الأطراف، ونجحت جميعًا فى تحقيق قدر كبير من تلك الأهداف غير المعلنة، فحققت إسرائيل ما تريد، وخرجت حماس بنتائج مريحة لها سياسياً على الأرض رغم عدد الشهداء والضحايا، وحققت طهران وأنقرة ودمشق وباريس قدراً وافراً من أهدافها، وجاءت كل هذه النتائج الإيجابية لكل طرف خصماً من رصيد مصر إعلامياً وسياسياً واستراتيجياً، وكأنها كانت الهدف غير المعلن لجميع الأطراف. انتهت الحرب بلا هزيمة معلنة لأى طرف، وبانتصارات غير معلنة لجميع الأطراف، وخسرت مصر وحدها، رغم إنقاذها ما أمكن إنقاذه قبل وقف إطلاق النار، تاجرت كل الأطراف بدماء الشهداء وآلام الضحايا، وخرجت بمكاسب عملية تعزز مواقعها، وظلت مصر وحدها تتعامل مع الأزمة بقدر كبير من النزاهة الأقرب لبراءة سياسية إن لم تقل «سذاجة»، وخرجت ب«الهزيمة الوحيدة» فى هذه اللعبة. [email protected]