منذ أن اندلعت حرب غزة، ومصر تتعرض للانتقاد، من بعض المتحمسين فى الشارع العربى وكثير من الكارهين والمغرضين فى عدد من الأنظمة الحاكمة فى عالمنا العربى، وفى محاولة للرد أو للتذكير بما قامت به مصر، تحدث بعضنا هنا عن دور مصر وما تحملته فى سبيل القضية الفلسطينية منذ سنة 1948 وحتى يومنا هذا. الواقع أننا نظلم أنفسنا كثيراً بهذا الرد، لأكثر من سبب وعلى أكثر من مستوى، نظلم أنفسنا لأننا لم نعلن الحقيقة للرأى العام، ولم نقدم المعلومة الكاملة، خاصة فيما يتعلق باتفاق 2005 حول معبر رفح، فمصر لم تكن طرفاً فيه، هو اتفاق ثلاثى بين السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل والاتحاد الأوروبى، والذى حدث أن «حماس» انقلبت على السلطة الوطنية، وهذا شأن فلسطينى خاص، ونخطئ فى حق أنفسنا حين تهاونا منذ سنوات فى المظاهرات التى كان يقودها عبدالحليم خدام أمام السفارة المصرية بدمشق، فشجع ذلك بعض الصغار فى عدد من العواصم العربية، وقد كان لافتاً للنظر أن مظاهرة واحدة لم تذهب إلى أى سفارة أمريكية فى العالم العربى، رغم أن الولاياتالمتحدة قدمت السلاح والدعم الكامل لإسرائيل، وقالت رايس ومعها بوش إن إسرائيل تدافع عن نفسها.. ولم تظهر الدعوة فى أى عاصمة عربية ممانعة لمقاطعة البضائع الأمريكية، وفى العاصمة الأردنية سمح للمتظاهرين بالوصول إلى السفارة المصرية أكثر من مرة، بينما لم يسمح للمتظاهرين بالاقتراب مجرد الاقتراب من السفارة الإسرائيلية. الواضح أن انتقاد أمريكا صار خطاً أحمر فى معظم العواصم العربية، فضلاً عن التظاهر ضد سياساتها، يلفت النظر هنا أن الطائرات الأمريكية أغارت بوحشية قبل شهور على قرية سورية قريبة من الحدود العراقية، ومع ذلك لم تخرج تظاهرة واحدة فى سوريا ضد السفارة الأمريكية، بينما يسمح للمظاهرات بالقيام حول السفارة المصرية، وقامت إسرائيل بغارة على موقع سورى، دمرته تماما، بدعوى أنه مفاعل نووى، فكان الرد السورى الرسمى هو السعى إلى التفاوض مع إسرائيل عبر تركيا!! لكن الظلم الأكبر لأنفسنا هو القول إننا نتحمل القضية الفلسطينية منذ سنة 1948، لأن مصر تتحملها قبل ذلك بكثير، وليتنا نراجع حادث البراق سنة 1929 وما جرى فيه، حيث امتد المهاجرون (الصهاينة) إلى حائط البراق بالمسجد الأقصى، وكانت مصر هى التى تصدت لهذا الحادث، وقاد محمد على علوبة «باشا» الجهد المصرى فى ذلك، من جمع تبرعات والدعوة إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية.. وقبل حادث البراق كانت مصر بجهود أبنائها التى انتبهت لوعد بلفور وحاولت التصدى له، وهناك ثورة 1936 الفلسطينية، قدمت لها مصر الدعم الكبير مادياً ومعنوياً، وفى جميع المؤتمرات الدولية المتعلقة بفلسطين، كانت مصر حاضرة بقوة وداعمة، ومنذ منتصف الأربعينيات والملك فاروق كان يحتضن الحاج أمين الحسينى مفتى فلسطين.. وحين اشتد الضغط الصهيونى على الفلسطينيين كان النقراشى باشا، وهو رئيس للوزراء، الذى سمح لعدد من الضباط المصريين أن يستقيلوا من الجيش المصرى، كى يسافروا مع الفدائيين للقتال، دفاعاً عن فلسطين واعتبروا ذلك دفاعاً عن «شرف العروبة» ومن هؤلاء أحمد عبدالعزيز وكمال الدين حسين، وآخرون ممن استشهد بعضهم على ثرى فلسطين. أما الكتاب والصحف المصرية فقد تحملوا هذه القضية مبكراً جداً جداً.. حيث نجد إشارة أولى فى مجلة «الهلال»، عدد سبتمبر 1894 إلى ازدياد معدل الهجرة اليهودية إلى مدينة القدس، الأمر الذى يهدد هوية المدينة المقدسة.. بعدها ومنذ سنة 1897 يكتب رشيد رضا باستفاضة على صفحات «المنار» منبهاً ومحذراً، من خطورة الهجرات الصهيونية إلى فلسطين، ويميز رشيد رضا بوضوح فى مقالاته بين مشاكل اليهود فى أوروبا وما يتعرضون له من ظلم وعنصرية وبين الفكرة الصهيونية ذاتها، ويتوالى الكتاب فى تلك الفترة المبكرة، وبلا مبالغة يمكن القول إن ما كان يجرى على أرض فلسطين منذ تسعينيات القرن قبل الماضى، كان شغلاً شاغلاً لعدد من كبار الكتاب والمصلحين، وقد أمكننى رصد أربعة منهم فى كتابى «المفكرون العرب والصهيونية وفلسطين» وهم رشيد رضا وشكيب أرسلان وجورجى زيدان وشبلى شميل وبالتأكيد هناك آخرون.. هؤلاء الكتاب قدموا أفكاراً وآراءً موسعة حول ما يجرى والتصورات المستقبلية، وصرخ جورجى زيدان منذ سنة 1910 من أن الأوضاع إذا استمرت فى فلسطين على ما هى عليه من توسع وانتشار صهيونى، فإن فلسطين خلال عقود قليلة سوف تضيع إلى الأبد من العرب، لأنه من خلال رحلة طويلة قام بها إلى فلسطين رأى بأم عينيه، أسس دولة عبرية توضع وتقام بدقة متناهية وليس فقط مجرد هجرات إنسانية لجماعات مضطهدة جاءوا يحتمون بسماحة وعطف الدولة العثمانية، كما فهمها وحكم عليها الأمير شكيب أرسلان لأول وهلة، وليسوا أناساً جاءوا لإعمار الأرض وزراعتها - فقط - كما فهم شبل شميل الأمر، وعبر عنه بوضوح. فى تلك الفترة كان الاستعمار الأوروبى يجتاح البلدان العربية، كانت الجزائر محتلة منذ سنة 1830 وكانت مصر ذاتها محتلة، وسوف نجد من الكتاب المصريين من يتحدثون عن الاستعمار فى كل بلد، وينددون به ويدعون لمساندة الشعوب العربية والتطوع دفاعاً عنها، كما حدث أيام جهاد عمر المختار فى ليبيا لكن وحدها فلسطين والهجرات والأفكار الصهيونية استحوذت على القدر الأكبر من الاهتمام والتركيز المتواصل، لأن هؤلاء جميعاً كانوا يدركون ما ندركه نحن اليوم من أن فلسطين بالنسبة لمصر شأن آخر، فهى الدولة الأولى على حدودنا وهى منطقة أمن قومى ووطنى لمصر وللمصريين، حتى إننا يمكن أن نجد على صفحات الصحف المصرية، فى تلك الفترة، نهايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حضوراً لمدن فلسطينية، مثل يافا وحيفا وعكا والخليل وبيت لحم وهموم أهلها ومشاكلهم، ناهيك عن القدس أكثر من حضور مدن مصرية مثل أسيوط والمنيا وقوص وطنطا والمنصورة ومنوف وشبين الكوم وغيرها وغيرها. الطريف أن عدداً من المسؤولين السودانيين عتبوا على مصر دولة وكتاباً ومثقفين أن جل اهتمامهم يذهب إلى فلسطين، بينما السودان هى الأحق بذلك الاهتمام وتلك الرعاية، وبعض هؤلاء المسؤولين انضموا إلى المنددين بالسياسة المصرية تجاه فلسطين فى الأزمة الأخيرة!! أياً كان الأمر فإن القضية الفلسطينية فى عنق مصر قبل سنة 1948 بمراحل، إلا إذا كنا لا نعترف بغير القتال والتحام الجيوش النظامية، مجالاً للنضال ضد الاحتلال والعنصرية الإسرائيلية، وقد يكون مقبولاً أن يجهل البعض دورنا، أما أن نجهل نحن ذلك الدور، فذلك غير المقبول وغير المفهوم!