وحدها الميديا العربية هى التى وصفت جولة الرئيس الفرنسى ساركوزى فى منطقة الشرق الأوسط بأنها ناجحة ومُثمرة مع أنها ليست كذلك فى الميديا الفرنسية، التى رأت - بحسب صحيفة «لوفيجارو» - أنها رحلة فاشلة لم يحرك الرئيس الفرنسي فيها ساكناً، وحسبه أن وزع ابتساماته الباهتة فى أكثر من مكان ووقف وراء «الميكرو» يتحدث ويُسهب فى الحديث.. لكن شيئاً (ما) لم يتحرك! والسبب - كما تقول - هو أنه لم يكن يريد غير ذلك وحسب أن يبيع «الوهم» للمصريين والعرب فقط! وللإنصاف لم تذكر «لوفيجارو» غير الواقع والحقيقة، فالسيد ساركوزى وقبل أن يزور المنطقة فى جولته المكوكية (هذه) قد استبقها بتصريح يؤكد فيه حق إسرائيل فى أن تدافع عن نفسها بالطريقة التى تراها. ولذلك حكم على جولته بالفشل، لأنه وقف فى صف إسرائيل قلباً وقالباً وتعامل مع الواقع الفلسطينى وكأنه واقع إرهابى، ومن حق إسرائيل أن تجتثه من جذوره! والحق أن ساركوزى قد ضحك على الجميع عندما تحدث مساعدوه عن مبادرته، التى تستهدف وقف إطلاق النار لمدة 48 ساعة وهى المبادرة التى قيل إنها (إنسانية الهدف والمغزى..) والثابت أن الرجل لم يبادر بشىء.. وحسبه أن باع الوهم لنا، ولذلك عندما وقفت السيدة ليفنى وزيرة الخارجية الإسرائيلية على (سلم) قصر الإليزيه فى باريس وأعلنت رفضها الكامل فكرة الهُدنة الإنسانية لم يناقشها ساركوزى، الذى كان يقف بجوارها، وبدا وكأنه يسمع عن هذه المباردة لأول مرة.. وكان مُثيراً للاهتمام ألا يُعلّق برناركوشنير وزير خارجية فرنسا.. وكأن الأمر لا يعنيه لا من قريب ولا من بعيد.. وهذا معناه أن شيئاً (ما) لم يحدث على الأرض، وإنما عقولنا العربية هى التى اخترعت هذه الصورة الطيبة لرئيس فرنسا (ساركوزى)، وليس يغيب عن بالنا - قط - أن هذه المرة ليست الأولى التى باع لنا فيها - السيد ساركوزى - الوهم أضعافاً مُضاعفة. فكلنا يذكر حلمه الذى ملأ عليه كل حياته وهو مشروع الاتحاد من أجل المتوسط، الذى تحدث عنه فى حملته الانتخابية، ونذر له الأشهر الأولى من حياته الرئاسية فى قصر الإليزيه.. وأدخل فيه إسرائيل عنوة ورغم أنف المعترضين.. والمصيبة الأعظم أنه مارس ضغوطاً جبارة لكى يعطى إسرائيل مقعد الأمين العام المساعد فى الاتحاد الوليد. ولم يُلق بالاً للاعتراضات العربية، وأكد أن وجود إسرائيل داخل هذا الكيان المتوسطى الجديد سيُكسبه ثقلاً واحتراماً، وتحاشى أن يفتح معه أحد ملف الاستيطان، أو القدس أو اغتيال القيادات الفلسطينية وتجويع أطفال ونساء غزة.. وسعى إلى إقناع الدول العربية الأعضاء فى الاتحاد من أجل المتوسط بأن وجود إسرائيل فيه لن يؤثر على أى شىء فى مسيرة الاتحاد، مع أن القاصى والدانى يعلمان أن الزخم الذى قدمه الاتحاد إلى إسرائيل لا يُنافسه آخر، وأن هذه الوضعية الجديدة لإسرائيل، كأمين عام مساعد، لن ولن تضيف إليها جديداً.. مع أن واقع الحال يؤكد غير ذلك، فإسرائيل بهذا الموقع قد حصلت على الزبدة وأموال الزبدة فى آن واحد، وباتت موائد المباحثات مع العرب مفتوحة آناء الليل وأطراف النهار.. بل بات على العرب أن يُصغوا جيداً لما يقوله قادة إسرائيل الحالمون بسيطرة العقل اليهودى، على النفط الخليجى، والأيدى العاملة المصرية.. وهو ما أصبح حقيقة بفضل «حضور» ساركوزى و«غيّبة» العرب - كل العرب.. وبرع ساركوزى فى الهروب من أى أسئلة تكشف مزاعمه متدثراً فى رداء الحكيم، الذى يريد للشرق الأوسط أمناً وسلاماً واستقراراً.. رغم أنه لم يُقدم شيئاً يؤكد صدق نواياه تجاه العرب وقضاياهم بالإجمال. واللافت للنظر أنه - فيما يتعلق بإسرائيل - كان إيجابياً إلى أقصى الحدود، فها هو - مثلاً - يُصرّ على أن تتبنى فرنسا موضوع ترفيع العلاقات السياسية والدبلوماسية بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي بحيث تصبح الدولة العبرية - والحالة هذه - شريكاً فاعلاً يبحث مع الأوروبيين فى قضايا الأمن بالمنطقة، وتكون عضواً أساسياً فى أى مباحثات تتناول شمال أفريقيا.. وتُدلى بدلوها فى قضايا الاستثمار فى جنوب المتوسط. بكلمة أخرى إن ترفيع مستوى العلاقات - بهذه الصورة - يعطى إسرائيل امتيازات تفوق ما يحصل عليه الأعضاء المؤسسون للاتحاد وإذا علمنا أن إسرائيل - بهذه الصفة - تتفوق على كل الدول العربية المتوسطية لأدركنا على الفور أن ساركوزى لا يضع فى بؤرة اهتمامه غير إسرائيل، وما حديث الغزل العفيف الذى يُسرّ به أحياناً بشأن العرب سوى دخان أبيض فى الهواء!! والمؤلم أن ساركوزى يفعل كل ذلك عياناً جهاراً ودون مواربة، فإسرائيل هى واسطة العقد فى كل سياساته الخاصة بالشرق الأوسط: أمنها، واستقرارها، وحدودها، أما الدول العربية فهى موجودة بالقدر الذى يستفيد منه ساركوزى، أقول ذلك وفى ذهنى العقود الضخمة التى وقّعها مع ليبيا والإمارات والسعودية والجزائر.. ولم يتردد لحظة واحدة عندما سئل عن استضافة بلاده العقيد معمر القذافى، الذى تعتبره بعض الأوساط السياسية الفرنسية مُجرماً آثماً بسبب تورط بلاده فى أزمة لوكيربى وغيرها من الأزمات التى تتعلق بأفريقيا السوداء.. فأجاب: إننى أعرف ذلك عنه، لكننى مددتُ إليه يدى لأننى بحاجة إلى تشغيل مئات الألوف من العاطلين فى فرنسا.. وهو ما سيتحقق بعد توقيع العقود، التى تصل قيمتها إلى نحو عشرة مليارات يورو!! إذن لا وجود للعرب فى سياسة ساركوزى إلا عندما يتعلق الأمر بمصلحة آنية ستعود عليه بالنفع حتماً.. وهو بعكس الموقف الفرنسى من إسرائيل، الذى هو فى الأصل موقف داعم ومُؤيد على طول الخط.. ولقد أكده ساركوزى نفسه عندما قال فى أكثر من مناسبة إن إسرائيل هى الصديق الاستراتيجى الوحيد لفرنسا فى منطقة الشرق الأوسط. وعلى أي حال، فإن التحركات الأخيرة للسيد ساركوزى وما قيل عنه - فى الصحافة الإسرائيلية - إنه نقل كلاماً غير دقيق عن كبار المسؤولين فى مصر زاد الأجواء تعكيراً وأدى إلى تلبدّ الغيوم فى سماء المنطقة.. كل ذلك ليس إلا مؤشراً على أن الرئيس الفرنسى قد باعنا الوهم فعلاً لا قولاً.. وهو ما يعنى أنه بات يتعين علينا أن نحذر منه ولا ننتظر منه غير الحنظل المرّ! وحول هذه النقطة تحديداً تتساءل صحيفة «البطة المربوطة» الفرنسية الساخرة: ماذا ننتظر من رجل فشل فى إدارة شؤون حياته الزوجية (بالإشارة إلى زوجته الأولى التى تركته لتعيش مع رجل أعمال مغربى).. إنه بالقطع سيفشل فى سياساته الخارجية مثلما فشل فى إدارة سياسته العاطفية! وذكرت أن زوجته هجرته بعد أن اكتشفت أنه كان يبيعها الوهم سنين عدداً.