مبنيان شاهقان يناطحان السحاب على كورنيش النيل فى ماسبيرو.. وزارة الإعلام بتليفزيونها وإذاعتها، وبعدها بخطوات وزارة الخارجية.. ورغم علو البناء فإن الأداء فى القاع. الخارجية المصرية مسؤولة بلا شك فى تقدير الموقف الخاطئ قبل ضرب غزة.. وحتى لو كانت الخارجية مسؤولة عن تنفيذ السياسة التى يضعها الرئيس، حسبما يؤكد أحمد أبوالغيط وزير الخارجية فى كل موقف، إلا أنها كان يجب أن تقنع الرئيس بأن دعوة وزيرة الخارجية الإسرائيلية لمصر خطأ من حيث التوقيت، ومن الأفضل أن يستعاض عنها برسالة مع مندوب من مصر.. ولولا هذه الزيارة المشؤومة لما نالت مصر كل هذا الهجوم الإعلامى الدولى.. والحقيقة أن تصريحات وزير الخارجية طوال الأزمة لم تكن تقنع أحداً بأن لمصر موقفاً مختلفاً عما تبنته الفضائيات العربية والدولية، وأقنعت به ملايين المشاهدين.. وهو كوزير للخارجية، كان يجب عليه أن يرد عليها بقوة حينما أصدرت تهديدها شديد اللهجة لحماس من مصر بعد لقائها مع الرئيس مباشرة، حتى لاتبدو مصر محل اتهام. أما الإعلام المصرى فلم يكن له موقف مختلف عن جارته فى ماسبيرو.. فمع أول صاروخ سقط على غزة تحول الملايين فى العالم العربى ومصر إلى قناة الجزيرة التى أدمنا مشاهدتها لسنوات، وبعد أن تخلصنا من هذا الإدمان على يد الإعلام المصرى الخاص منذ شهور قليلة فقط، عدنا لها – بكل أسف - من جديد مع ضرب غزة، فهى بلا شك تقدم خدمة إعلامية من غزة 24 ساعة يوميا، ولم يكن ممكنا التحول عنها إلا للنوم أو الخروج من المنزل.. ولم يكن للتليفزيون المصرى – بكل أسف أيضا - أى ذكر فى تغطية هذه الحرب الإسرائيلية القذرة على غزة.. والجزيرة تمكنت من إصدار رسائل عديدة لتأليب الرأى العام العربى والمصرى على النظام المصرى، حيث كررت بث لقاء الرئيس مبارك مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية عدة مرات بمجرد ضرب غزة، كما كررت تصريحاتها التى هددت فيها حماس من مصر، وكذلك صورة وزير الخارجية المصرى ممسكا بيدها خوفا عليها من الوقوع على السلم.. فأصبح كل طفل عربى مقتنعاً بأن مصر لعبت دورا غير شريف فى هذه القضية بسبب الجزيرة، وأصبح الجميع مستفزين من موقف مصر، وفتحت الجزيرة الباب على مصراعيه لكل من يريد الهجوم على مصر.. وكان كل من يتابع الجزيرة خلال الأسبوعين الماضيين يرتفع ضغطه مما يحدث للأطفال والنساء والشباب والشيوخ الفلسطينيين فى غزة، ويرتفع هذا الضغط أكثر عند المصريين الذين شعروا بأن موقف بلادهم المساند للقضية الفلسطينية على مدى عمرها تبخر فى لحظة وحل محله موقف معاكس. الجزيرة نجحت فى جذب المشاهد المصرى والعربى لأنها قدمت تغطية متميزة من الناحية المهنية بلا شك.. ولا أستطيع لومها فى موقفها لأنها قناة قطرية تعبر بالتأكيد عن الموقف القطرى الرسمى.. ولكن المطلوب أن نستفيد من الحقيقة المرة التى جرعتها لنا، وهى أن مصر ليس فيها إعلام قادر على التعامل مع هذا النوع من الأزمات.. فالحكومة المصرية لاتمنح أى ترخيص لأى قناة فضائية مصرية خاصة لتعمل فى مجال الأخبار، وبالتالى خرجت كل المحطات الفضائية المصرية الخاصة من السباق فى بدايته.. والإعلام الحكومى المصرى المحتكر للأخبار فى قطاع للأخبار وفى قناة إخبارية، بدا هشا ضعيفا سخيفا خارج المنافسة، غير قادر على جذب أى مشاهد، والتليفزيون المصرى لم يصدر عنه أى رد فعل مضاد ليشرح للمصريين حقيقة الموقف، وحتى لو حاول فلن يشاهده أحد.. وأصبحت الجزيرة تقول ما تريد أن تقوله، والمشاهد يقف مشدوها أمامها لايملك القدرة على تغيير القناة، وكأنها تلعب منفردة فى ملعب يفترض أننا الأقدم فيه. والأخطر أن وزارة الإعلام، التى ركزت جهدها خلال العام الماضى فى السيطرة على الفضائيات الخاصة لتدجينها ومنعها من التغريد خارج السرب، لم يكن لديها أى خطة أزمات إعلامية للتعامل مع أزمة شديدة الخطورة، كالتى تعرضت لها مصر إعلاميا مع بدء ضرب غزة.. فلم يظهر لدينا متحدث فاهم وملم بالتفاصيل حتى يرد على الادعاءات بشكل فاعل ومقنع.. وخلا رد الفعل الإعلامى من أى مادة مصرية توضح الأمور للرأى العام، وكان أول رد فعل رسمى بعد 4 أيام من الهجوم الإسرائيلى على غزة والهجوم الإعلامى على مصر هو نقل البيان الذى ألقاه الرئيس بمناسبة رأس السنة الهجرية، الذى تعرض فيه للقضية، وبعده بثلاثة أيام تصريحاته عن منفذ رفح.. وهما التصريحان اللذان نقلت الجزيرة أجزاء منهما بالفعل، وبالتالى لم يكن هناك أى حاجة لتغيير زر الريموت.. والمؤسف أن إسرائيل المعتدية والباغية استطاعت أن تحدد لنفسها خطابا إعلاميا ودبلوماسيا قويا ومقنعا موجها للرأى العام العالمى من خلال مجموعة من المتحدثين الإعلاميين المدربين والذين تنطبق عليهم المواصفات التى لاتنطبق على المتحدثين المصريين الرسميين. ربما ليس هذا وقت الحساب، ولكن الفشل الذى ضرب الوزارتين فاق كل الحدود، فأداؤهما كان مخجلا وغير مشرف لنا كمواطنين ولا حتى للنظام المصرى نفسه.. وقد كشفت أحداث غزة الحاجة الماسة لإعادة النظر فى طريقة عمل وزارتى الخارجية والإعلام، فلا يصح أن يكون المبنيان مرتفعين شامخين على نيل مصر بهذا الشكل، وأداؤهما هزيل ضعيف ومؤسف بهذا الشكل أيضا. [email protected]