لايزال خطاب رئيس الصين، فى ذكرى مرور 30 عاماً، على انفتاح بلاده على العالم، خطاباً فريداً فى نوعه، ولايزال موحياً لنا بأشياء كثيرة، إذا كنا جادين حقاً فى أن يؤخذ الانفتاح عندنا، ومعه الإصلاح، كما أخذوهما هناك.. ذلك أن حصيلة مثل هذا الانفتاح، أو حتى الإصلاح، تبدو فى حياتنا ضئيلة إلى حدود مخجلة، وتبدو هناك فارقة، ومدهشة، ومثيرة لأكثر من سؤال، ربما يكون أهمها عن معنى الإصلاح، على وجه الدقة، وعن معنى الانفتاح، على وجه التحديد! فلايزال بيننا، إلى اليوم، مَنْ يفهم الإصلاح، ويستوعبه، على أنه مجرد إصلاح عن طريق الرقابة الإدارية، من خلال ضبط واقعة فساد هنا، أو مطاردة لص مال عام هناك، فى حين أن مثل هذه العملية، لا تخرج فى مجملها عن إطار مكافحة نوع من الجريمة بوجه عام.. ولا علاقة لها، سواء تمت، أو لم تتم، بالإصلاح الحقيقى الذى نريده، لأنه والحال كذلك، يتحقق بوسائل وأدوات أخرى، ويبدأ من أول الدستور، مروراً بالقوانين، وانتهاء باللوائح فى كل مؤسسة! وحتى الدستور، إذا كنا نجحنا حقاً فى تعديل بعض مواده، بما يتماشى مع طبيعة العصر الذى نعيشه، فقد اكتشفنا عند تطبيق مثل هذه المواد، والعمل بها فى الحياة الجارية، أن عملية الإصلاح لم تكن أبداً، ولن تكون منحصرة فى نصوص دستورية متخلفة أو حتى متقدمة.. وإلا.. فإن هناك دولاً ليس لديها دستور مكتوب، ومع ذلك، فهى فى الذروة بين الأمم، وربما تكون إنجلترا أهمها، ولا نريد أن نضرب مثلاً آخر بإسرائيل على حدودنا، فما يعرفه المعنيون والمتابعون للشأن العام، عن متوسط دخل الفرد لديهم فى تل أبيب، مقارنة بمتوسط دخل الفرد فى القاهرة، يجب أن يكون مدعاة لأن نستحى من أنفسنا! المشكلة الحقيقية، إذن، ليست فى نصوص الدستور، لأنه من الممكن جداً أن تتعدل هذه النصوص، على أفضل ما يكون، ثم يتبين لنا، بعد فترة، أننا لانزال فى أماكننا، لم نتقدم خطوة واحدة، لا لشىء، إلا لأن الروح التى تطبق الدستور، هى المشكلة الحقيقية، وليست مادة فيه أو أكثر.. فالدستور يمكن جداً أن يكون فى كل مواده، رأسمالياً ومشجعاً ومغرياً، ثم تكون الروح التى تقوم على تطبيق مواده هذه، روحاً اشتراكية فى مضمونها، وجامدة فى حقيقتها، ومتصلبة فى قناعاتها نفسها.. فكأنك جددت سيارتك كلها، وغيرت كل جزء فيها، ثم تركت الموتور على حاله، وأعطاله وعيوبه! فالإصلاح الذى يمكن أن نفهمه، من واقع تجارب غيرنا، خصوصاً الصين، لأنها احتفلت بالانخراط فيه، على مدى ثلاثين عاماً، على مرأى من الدنيا، إنما هو إصلاح فى الروح، قبل أن يكون إصلاحاً فى الجسد.. هو إصلاح فى البشر.. قبل أن يكون فى الحجر.. ولذلك، فإن الرئيس الصينى، وهو يخطب فى تلك الذكرى، لم يكن فقط يود أن يقول، إن عملية الإصلاح فى بلاده استمرت، وسوف تستمر، وإنما كان يريد أن يقول الأهم، وهو أن استمرارها فى الماضى، ثم تواصلها فى المستقبل، محتاج إلى طاقة تدفعها ومرهون بها.. هذه الطاقة هى يقين الناس، حكاماً ومحكومين، فى حتمية الإصلاح وفى جدواه، وفى ضرورته، وفى أنه جوهر، قبل أن يكون عملاً من أعمال المظهر! أما الانفتاح، فتلك قصة أخرى، أهم ما فيها، أنه ليس مجرد نقل سلع وخدمات من العالم إلينا، أو العكس..لا.. فهذا هو الانفتاح الساذج، إذا جاز أن يوصف انفتاح على العالم، فى أى مكان، بأنه ساذج.. فالانفتاح الحقيقى، الذى يؤدى إلى نتيجة على الأرض، من النوعية التى تحققت فى الصين، هو انفتاح الأفكار، على كل أرجاء الدنيا.. انفتاح الرؤية، والحلم، والخيال، والتصور.. وإلا فسوف نكتشف، عند تأمل حالنا، أننا بالفعل منفتحون على العالم، على أحسن ما يكون الانفتاح، عبر الحدود، وغير الحدود.. ولكن عقولنا منغلقة، ومغلقة عن استقبال ما يدور هناك، على الجانب الآخر.. ولذلك فالمهم ليس أن نتكلم عن الإصلاح، أو الانفتاح، أو نعدد سنواتهما على أرضنا.. المهم أن نمارسهما كما يعرفهما العالم.. فاطلبوا الإصلاح، ومعه الانفتاح، ولو فى الصين!.. إنهما فى الأول، وفى الآخر: حالة!