معظم كُتّاب وأدباء ومفكرى مصر ماتوا كمدًا أو غيظًا أو اكتئابًا، هكذا كان حال توفيق الحكيم الذى كان يُخيفه أن تتقاضى الراقصة نجوى فؤاد - نجمة الرقص الشرقى فى زمانها - آلاف الجنيهات مقابل (ساعة رقص!) والفيلسوف الراحل زكى نجيب محمود الذى هانت عليه نفسه (وزمانه) عندما أدرك - بعد فوات الأوان - أن أحدًا لم يكترث ولم يهتم.. بل لم يقرأ فى الأصل كل ما كتب، فكان أن افترسته موجة من الاكتئاب أسلمته إلى غيبوبة لم تتركه حتى مات! وليس بعيدًا عن هذه الكارثة مفكرنا الراحل لويس عوض الذى كان يملأ الدنيا ويشغل الناس بفكره ونقده فى الأدب والمسرح والفنون الإبداعية، بل أشرف - فى حقبة زمنية زاهرة - على صفحة الأدب بجريدة الأهرام وكان يُصرّ أن يضع على رأس الصفحة عنوان: الأدب من أجل الحياة، مؤكدًا بذلك قناعته بفلسفة الالتزام بمعنى أن الفن يجب أن يكون من أجل الحياة وليس من أجل الفن! والحق أن المفكر الكبير لويس عوض هو واحد من أبناء أرض مصر، الذين انشغلوا بهمومها (صغارًا) ثم حملوا هذه الهموم على كاهلهم وفى قلوبهم (كبارًا)، وظلوا أوفياء لمصر وأهلها حتى فاضت أرواحهم.. لكن الأهم أنه لقى عنتًا شديدًا فى حياته العلمية والعملية، ووقع عليه ظلم بيّن وحورب فى لقمة عيشه، ونزل ضيفًا لأكثر من مرة على السجن، وخصه السجانون بعقاب إضافى لا لشىء إلا لأنه المفكر الكبير لويس عوض! ولقد روى لى أحد تلاميذه وهو الكاتب الراحل مصطفى مرجان الذى أمضى فى باريس سنوات عمره الأخيرة، أنه لجأ إليه ذات مرة بعد أن ضاقت به الدنيا وتكالبت عليه الهموم يسأله العون راجيًا إياه أن يتوسط عند ذوى النفوذ والسلطان فى مصر كى يساعدوه فى البحث عن عمل يتناسب مع مهاراته وتكوينه العلمى.. فظل الدكتور لويس عوض يستمع إليه حتى اغرورقت عيناه بالدموع، فانخلع قلب مصطفى مرجان جزعًا على أستاذه مُعتذرًا عما سببه له من حزن. فمسح الدكتور لويس عوض دموعه بطريقة طفولية لا تخلو من ألم، وقال وهو يربت على كتف تلميذه (مصطفى مرجان): لا تقلق يا صاحبى.. فأنا بخير! لكننى وددت لو أسألك (ولعل هذا هو سر بكائى وحزنى) لماذا تركت الدنيا كلها وجئت تسألنى العون وتطلب منى التدخل لمساعدتك.. ثم أضاف يقول فى صوت يخنقه البكاء: «ألم تعرف يا صاحبى أننى مضروب بالبرطوشة! فى هذا البلد، فلا وزن لى ولا مكانة. ثم قال وهو يدير له ظهره: لو ذهبت إلى أصغر وأقل إنسان فى مصر لأمكنه أن يساعدك، أما «أنا» فلا أمل لك فىّ! هذا الحال الذى رواه لى مصطفى مرجان ليس فيه أدنى مبالغة أو تجن، فالمفكر الكبير لويس عوض لفظته الطغمة الحاكمة فى دنيا الثقافة والأدب والسياسة فى زمانه، وتعمدوا تهميشه والتقليل من شأنه والاستخفاف به وبعقله وإنتاجه الفكرى وكلنا يذكر الأصوات الخرساء! التى انطلقت ذات مرة تطالب وزارة الثقافة بأن تسحب منه جائزة الدولة التقديرية التى شرفت بلويس عوض أكثر مما شرف هو بها. ووقتها قابل لويس عوض هذه العاصفة ببرود شديد، وكان أشبه بالطود الشامخ فى مواجهة هذا الصغار، وليس سرًا أن هذه الأصوات استندت فى دعواها المغلوطة إلى كتاب الدكتور لويس الشهير (فقه اللغة) وغاب عن بالهم أن الفكر لا يحارب بالإرهاب أو التفزيع ولا يقابل بالقمع وإنما بالحوار. ورغم ذلك، فالمحقق أن هذا الموقف ترك (ندوبه) على قلب لويس عوض الذى عاش ومات من أجل الفكر، وكانت أمنيته الغالية أن يرى مصر فى نهضة ورقى ورفعة. حدثنى ذات مرة فى باريس قائلاً: إننى يا ولدى لم أنجب أولادًا.. فكلكم أبنائى، وكان يحدثنا - فى المركز الثقافى المصرى الكائن بالحى اللاتينى بالقرب من جامعة السوربون - عن عشقه لمصر وأهلها وكيف تكون المواطنة، وأن نحمل (مصر) فى قلوبنا أنى حللنا أو ارتحلنا. ولم يتردد أن يهاجم المستشرقين الذين يعملون من وجهة نظره (تروسًا) فى ماكينة الاستعمار الغربي.. وكان يطلب منا أن نتعلم فى الغرب (المنهجية العلمية) فى التفكير ثم نسارع بالعودة إلى مصر لكى نشارك فى حركة النهضة التى كان يتمنى أن تتفتح زهورها يومًا بعد يوم فى أرض الكنانة. ويروى تلميذه مصطفى مرجان - الذى أشرت إليه فى أول هذه السطور - هذه الحكاية التى لا تخلو من مأساة.. قال: كان الدكتور لويس يحرص على زيارة باريس ليلتقى بصديقيه عالم النفس الشهير مصطفى صفوان (له عيادة تحليل نفسى فى الحى اللاتيني) والناقد الراحل محمد مندور.. وفى إحدى هذه الزيارات التى اختار د. لويس أن تتزامن مع عيد الثورة الفرنسية فى 14 يوليو.. التقى بفتاة فرنسية (ريفية) جاءت بدورها إلى العاصمة باريس لكى تحتفل بهذا اليوم الذى يرقص ويشرب فيه الجميع.. وبعد ساعات من التعارف والرقص فى شوارع باريس اختفى لويس عوض عن أنظار صديقيه ثم عاد إليهما بعد يومين ليعلن أنه قرر أن يتزوج هذه الفتاة الفرنسية. ولم يتمكن مصطفى صفوان أو محمد مندور من إقناعه بالتريث، إذ بدا الأمر وكأنه قد انتهى لصالح رغبة لويس.. وفى القاهرة اكتشف المفكر الكبير أن زوجته تعشق الحيوانات والزواحف على وجه الخصوص، وبعد أقل من ثلاث سنوات تحولت شقته إلى ما يشبه حديقة حيوان مُصغرة مليئة بالثعابين والتماسيح.. فاضطر أن يهجر الشقة واستأجر مكانًا آخر فى شارع قصر العينى.. ليكون (خلوته) للقراءة والكتابة والتفكير.. وهكذا قدر للراحل لويس عوض أن يفتقد الشعور بالأمن والطمأنينة فى بيته الصغير.. وبيته الكبير أيضًا!