فجأة قرر جورج دبليو بوش أن يقوم بزيارة «وداع» لبغداد، وأن يحول تلك الزيارة، التى تمت خلال الأسبوع الماضى، إلى مناسبة للاحتفاء بالتوقيع على «الاتفاقية الأمنية» التى يعتبرها إنجازاً كبيراً له يستحق أن يشرح دلالاته للعالم أجمع.. وأثناء المؤتمر الصحفى الذى عقد خصيصاً لهذا الغرض وبثته الفضائيات على الهواء مباشرة، فوجئ ملايين المشاهدين فى مختلف أنحاء العالم بشاب ينحنى ليخلع فردة حذائه ثم يقذف بها بكل قوته فى وجه بوش، مصحوبة بسيل من الشتائم المقذعة، ثم يعود فينحنى ليلتقط فردة حذائه الثانية ويكرر من جديد نفس ما فعله فى المرة السابقة، بينما العالم كله فى حالة ذهول من هول المفاجأة، وبذلك انقلب المشهد، الذى أراد له بوش أن يكون تتويجاً لانتصار وهمى لم يحدث إلا فى ذهنه، إلى مشهد خزى لم يسبق لأى مسؤول فى العالم أن ذاق مثله! فقد دخل بوش التاريخ لا بوصفه محرر العراق ولكن بوصفه الرئيس الذى ودعه الشعب العراقى بالضرب بالحذاء فى حفل جماهيرى على الهواء. بعد لحظات تبين أن الشاب الذى قام بهذا العمل المثير، والذى أصبح حدث العام وحديث العالم، هو صحفى عراقى اسمه منتظر الزيدى يعمل بإحدى الفضائيات العراقية، ولأن الحدث أثار ردود أفعال مدوية، فقد بدأ المحللون السياسيون وعلماء النفس ينخرطون فى جدل حاد، ليس فقط حول دلالة ما وقع، ولكن أيضاً - وعلى وجه الخصوص - حول دلالة ردود الأفعال الشعبية تجاهه، فبينما اعتبرت الأغلبية الساحقة فى العالم العربى أن ما قام به الشاب العراقى عمل وطنى شجاع يستحق التقدير والاحترام، بل بلغ الحماس بأحد المواطنين العرب حداً جعله يعرض شراء حذاء الزيدى بعشرة ملايين دولار، ويبدى استعداده لبيع كل أملاكه فى مزاد علنى لهذا الغرض، اعتبر نفر قليل أن ما قام به الزيدى تصرف يفتقر إلى اللياقة والذوق، ويخرج عن حدود الأدب والشهامة، وأن ردود الأفعال الشعبية الإيجابية تجاهه تشكل دليلاً قاطعاً على أن الشعب العربى يستحق أمثال صدام. لو أن شخصاً تصرف على هذا النحو فى مواجهة شخص آخر، ناهيك عن أن يكون هذا الآخر هو رئيس دولة، لاعتبر تصرفه فى الأحوال العادية تصرفاً غير لائق ولا يصدر إلا عن شخص غير متحضر، فما بالك عندما يكون مرتكب الفعل المدان صحفياً يفترض أن تنحصر مهمته الأساسية فى نقل الأخبار، وربما التعليق عليها، ولكن ليس صنعها أو التعبير عن وجهة نظره هو بشأنها، غير أن المعايير القابلة للتطبيق فى الأحوال العادية لا تصلح للاستخدام أبدا فى الأحوال الاستثنائية، ومنها هذه الحالة تحديداً، فمنتظر الزيدى مواطن عراقى قبل أن يكون صحفياً، وقد أراد أن يعبر بطريقته عن كراهيته واحتقاره لشخص رئيس أمريكى، اسمه جورج دبليو بوش تحديداً، يعتبره المسؤول عما لحق ببلاده من دمار، لذا تقضى قواعد العدالة والإنصاف، فى تقديرى، أن ننظر للحدث بعيون أخرى، وأن نتعامل معه طبقاً لقواعد ومعايير مختلفة عن تلك التى يمكن تطبيقها فى الظروف والأحوال العادية، ومن هذا المنطلق أضم صوتى إلى كل الذين رأوا فيما قام به منتظر الزيدى عملاً شجاعًا مبررًا، ويعكس حقيقة المشاعر التى يكنها كل وطنى عراقى، وكل قومى عربى، بل كل ضمير إنسانى حى تجاه شخص الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش، ولا أظن أنى أبالغ إذا قلت إنه يصعب على المرء أن يعثر فى أى صفحة من صفحات التاريخ المعروف للشعوب على حدث فردى وعفوى يماثل هذا الحدث فى قدرته على تجسيد مشاعر وطن، ومشاعر أمة، بل مشاعر كل إنسان شريف فى العالم، فقد تمنى كل واحد من هؤلاء لو أتيح له أن يشارك بنفسه فى تلك اليد المباركة التى التقطت فردتى الحذاء وقذفتهما فى وجه حاكم ليس سوى مجرم حرب حتى لو كان بدرجة رئيس الدولة الأعظم فى عالمنا المعاصر. لا تتوافر لدىّ فى هذه اللحظة معلومات تكفى لتقديم تحليل منضبط عن شخصية منتظر الزيدى، أو للتعرف على كيفية وتوقيت ولادة هذه الفكرة البسيطة والعبقرية فى ذهن هذا المواطن العراقى الرائع، أو على الحالة النفسية التى كان عليها حين شرع فى تنفيذ فكرته، ومع ذلك فهناك ما يكفى من المؤشرات التى تسمح باختبار صحة مجموعة من الافتراضات منها: 1 - أن الزيدى لم يقم بما قام به بوحى من أحد أو لحساب تنظيم أو وجهة داخلية أو خارجية، وبالتالى فما قام به ليس عملاً مسيساً ومنظماً. 2 - أن ما قام به هو تعبير عن مشاعر فردية وشخصية ولدوافع وأسباب وطنية خالصة. 3 - أن اختيار وسيلة التعبير عن تلك المشاعر جاء عفو الخاطر ووليد اللحظة ولم يكن عملاً مخططاً أو مدبراً، والأرجح أن تكون الفكرة قد انبثقت فى رأس صاحبها بطريقة لا إرادية وعقب دخول القاعة المخصصة للمؤتمر الصحفى، وليس قبل ذلك، وهنا تكمن روعة الحدث ودلالاته العميقة والمذهلة. فصاحبنا شاب توحى حداثة سنه بأنه ينتمى إلى جيل غير الجيل الذى تربى فى أحضان البعث أو تأثر وجدانيا بأطروحاته الأيديولوجية، والأرجح أن يكون وعيه السياسى قد بدأ يتشكل فى مرحلة ما بعد الغزو العراقى للكويت، ثم راح ينمو فى ظل الحصار الخانق الذى فرض على بلاده عقب ذلك الغزو إلى أن اكتملت معالمه تدريجياً مع تلاحق الأحداث التى أفضت إلى قرار بوش بشن الحرب على العراق بدعوى امتلاكه أسلحة دمار شامل، بل إننى لا أستبعد مطلقاً أن يكون صاحبنا واحداً من كثيرين ربما شعروا بالارتياح لسقوط صدام وانهيار نظامه لكن دون أن يعنى ذلك بالضرورة ترحيباً بالاحتلال الأمريكى أو تأييداً له، ولأن مهنة صاحبنا هى الإعلام، فلا جدال فى أنه كان أكثر من بقية أبناء جيله قدرة على متابعة حقيقة ما جرى ويجرى لبلاده قبل وأثناء وبعد الغزو الأمريكى، وتبين له من خلال هذه المتابعة أن بوش كذب على شعبه وعلى العالم كله لتبرير حربه العدوانية، وأنه كان يخطط لشن هذه الحرب منذ لحظة وصوله إلى السلطة، ولأسباب لا علاقة لها لا بأسلحة الدمار الشامل أو بتحقيق الديمقراطية فى العراق أو فى المنطقة ككل أو حتى بالحرب على الإرهاب! ولأنه ليس من المستبعد أن يكون لصاحبنا أهل أو أقرباء أو أصدقاء قتلوا أو شردوا أو هاجروا ضمن ملايين آخرين، فمن الطبيعى أن يستقر فى وعيه شعور عميق بالكراهية تجاه من يعتقد أنه المسؤول الأول عما حل بالعراق من كوارث، وأن تتولد لديه رغبة دفينة فى التعبير عن احتقاره الشديد له أو حتى الانتقام منه. لكن لماذا وقع التعبير عن ذلك الشعور فى هذا التوقيت تحديداً، وأخذ هذا الشكل المبتكر الذى أذهل ملايين المشاهدين فى مختلف أرجاء المعمورة؟ أظن أنه يمكن العثور على إجابات منطقية لهذه التساؤلات، فحتى بافتراض أنه سبق لمنتظر الزيدى أن حضر مؤتمرات صحفية لبوش واقترب منه إلى هذا الحد، إلا أن الأرجح أن ملابسات واستفزازات اللحظة هى التى دفعت صاحبنا إلى الإقدام على ما فعل، فالرئيس الأمريكى أتى هذه المرة إلى العراق فى أعقاب انتخابات عبر فيها الشعب الأمريكى بوضوح تام عن رفضه لسياساته، وبعد أن سقط حزبه فى الانتخابات ونشرت استطلاعات رأى تشير إلى أن 77٪ من النخبة الأمريكية تعتبر بوش الرئيس الأسوأ فى التاريخ الأمريكى كله، لكن يبدو أن هذه الحقائق كلها لم تكن تعنى شيئاً بالنسبة لهذا الرئيس الذى «توحى هيئته بتخلف فطرى واضح»، الذى سعى جاهداً لقلب الحقائق رأساً على عقب ولتحويل جرائمه فى العراق إلى مكاسب وإنجازات وانتصارات، فهل يمكن، رغم ذلك وبعد ذلك كله، أن نوجه اللوم إلى شاب عراقى، حتى ولو كان صحفياً، تضعه الأقدار على مرمى حجر من رئيس مجرم عديم الحساسية تسبب فى تدمير وطنه، إذا ما قرر أن يعبر عن مشاعره تجاهه بقذف نعليه فى وجهه؟ فالإنصاف يقتضى أن يحاكم بوش، وأن ينال العقاب الذى يستحقه بسبب ما ارتكبه من جرائم فى حق العراق والإنسانية، لا أن يزج بمن عبر عن مشاعره تجاهه فى غياهب السجن، صحيح أنه عبر عنها بطريقة لا تليق بالرؤساء أو حتى بأى إنسان، لكن ما الذى كان بوسع مواطن عراقى أن يفعل للتعبير عما يجيش به صدره من مشاعر الازدراء تجاه شخص بوش؟ لم يكن منتظر الزيدى يفكر فى الانتقام، لكنه أراد فقط توديع بوش بالطريقة الوحيدة التى يستحقها، وأظن أنه نجح فى تحقيق هدفه تماماً وربما لن يؤدى حذاء منتظر إلى تحرير العراق، لكنه قدم أكبر دليل على أنه بوسع الشعوب أن تقدم وسائل مبتكرة للاحتجاج على السياسات التى ترفضها، لقد كان حقاً خير وداع لبوش!