«قول يا عم جابر» ينساب صوت عبد الرحمن الأبنودى فى بداية شريط الكاسيت يتبعه على الفور صوت «عم جابر أبو حسين»، سيرة بنى هلال.. وبطولات «أبو زيد»، و«دياب»، و«الزناتى خليفة».. وجمال «الجازية» الذى يخلب الألباب.. وعشق «عزيزة» بنت السلطان ل«يونس» الغلبان.. بطولات ومغامرات وسيرة شعبية شديدة الثراء كان لعبد الرحمن الأبنودى الفضل فى حمايتها من الضياع، عندما ساح فى بلاد الله يجمع فصولها من أفواه منشديها، ويسجلها كاملة على شرائط كاسيت بصحبة الراحل «جابر أبو حسين». الآن يقوم الأبنودى بتسجيلها صوتاً وصورة للتليفزيون المصرى بصحبة الشاعر سيد الضوى، داخل بيت السحيمى فى قلب القاهرة الفاطمية.. نفس المكان الذى اعتاد الأبنودى فى رمضان من كل عام أن يطل منه على جمهور عريض ربما يسمع السيرة لأول مرة فى حياته. سنوات طويلة من التعب والسفر والتدوين، جعلت الدكتور أبو الفضل بدران عميد كلية الآداب جامعة جنوب الوادى يضع بسببها عبد الرحمن الأبنودى فى مصاف الأدباء والشعراء الأوائل فى تاريخ الإنسانية ليس فقط لتدوين السيرة وجمعها، وإنما يذهب الدكتور أبو الفضل إلى أبعد من ذلك عندما يقول إنه من غير المستبعد أن يكون الأبنودى قد أضاف للسيرة من شعره الخاص. فالسيرة كما يقول بدران هى آلاف الأبيات الشعرية المقفاة، التى تنشد بصحبة الربابة على لسان شاعر عادة ما يتقمص شخصياتها وأثناء التقمص قد يحدث أن ينفعل الشاعر ويخرج على النص لكى يضيف ويؤلف مواقف ترضى جمهوره من المستمعين، وفى هذه الأثناء يقوم الشاعر بتلوين صوته وأدائه حسب الموقف الذى يتحدث عنه. كما يلون عزفه على الربابة ليصبح مفرحاً حيناً، وحزيناً حيناً آخر، ولذلك فإن الجميع على حد تعبير بدران يجد فى السيرة الهلالية حياته وتاريخه، وعشقه وحزنه، وربما يفسر ذلك أهمية جمع السيرة الهلالية كتراث شعبى يعبر عن الناس وهمومهم. ويرى الدكتور أبو الفضل إن الأبنودى استفاد من جمع السيرة الهلالية مثلما أفاد تماماً، فمن وجهة نظره أن جمع الأبنودى آلاف الأبيات الشعرية أثرى ذاكرته ومفرداته اللفظية، واستقرت فى اللاشعور لديه، الأمر الذى يرى الدكتور بدران أنه كان له أثر كبير فى كتاباته الشعرية، وشىء آخر يضيفه الدكتور بدران وهو أن السيرة الهلالية موجودة منذ وقت طويل، وجابر أبو حسين ومئات مثله كانوا موجودين من قديم الأزل. ولكنهم لم يجدوا من يجمع منهم السيرة، ويحفظها من الضياع قبل وفاتهم، وكانت النتيجة كما يقول الدكتور أبو الفضل هو تعرض السيرة لشبح الضياع قبل أن يقوم الأبنودى بعمله الضخم فى جمعها صوتياً وورقياً. هناك روايات للسيرة الهلالية يقول الدكتور بدران إنها لم تجمع بعد، ويرى أن الصعيد ملىء بالمخطوطات التى لم تنشر كما أنه ملىء بالأشعار والأزجال والمواويل والأغنيات التى لم تجمع مما دفع كلية الآداب بجامعة جنوب الوادى لإنشاء «مركز تحقيق التراث» يرأسه الدكتور عابس منصور رئيس الجامعة، ويشرف عليه الدكتور أبو الفضل، وتنحصر مهمته فى جمع الفلكلور الشعبى وتحقيقه ونشره، إلى جانب جمع المخطوطات التى تحمل تراثاً قيماً للغاية على حد تعبيره. أما الشاعر محمود مغربى أحد أبناء قنا، وأحد أصدقاء الأبنودى فيقول إن جوهر الصراع الصحراوى فى السيرة الهلالية يشبه الصراع الذى يدور فى البيئة الصعيدية، ولذلك فقد حازت إعجاب الجنوبيين، وأدت إلى انتشار الشعراء ورواة السيرة بينهم. ويضيف إن المنشد الشعبى موجود فى كل قنا، يظهر بوضوح فى الموالد الشعبية كمولد أبى حجاج والطواف، ويقول مغربى إنه يتذكر هذا الإنشاد منذ 30 عاماً أو أكثر عندما كان الشاعر سيد الضوى ينشد أجزاء من السيرة فيشعر معه مغربى أنه يرى معركة حامية الوطيس تدور بين الأطراف. ويضيف قائلاً إنه على الرغم من وجود المنشد الشعبى منذ زمن فإن أحداً لم يلتفت لفكرة التدوين قبل أن يبدأ الأبنودى عمله الذى يقول عنه مغربى إنه حافظ على السيرة الهلالية التى تعد بمثابة «الثروة القومية»، وهو عمل يرى مغربى أنه لا يقوم عليه شخص واحد فقط، وإنما يحتاج لكتيبة من الباحثين والكتاب، وكون الأبنودى ينجزه بمفرده فهذا يدل على «إخلاصه لعمله، وتقديره لقيمة ما يعمل».