انزعجت أمٌّ مصريةٌ جميلة من أسيوط، لأنها أحسَّت أن جزءًا من طفولتها قد سُرِق. كانت السيدةُ «شيماء زكى» وصغيرُها «كريم»، الذى بعدُ لم يكمل سنواتِه الثلاث، يشاهدان قناةً فضائية عربية اسمها «طيور الجنّة». انتبهتْ حواسُّها كلُّها بغتةً على أغنيةٍ تقول كلماتها: «اسلمى يا قدسُ إننى الفدا/ ذى يدى إن مدَّت الدنيا يدا/.../ لكَ يا قدسُ السلامُ/ وسلامًا يا بلادى..» تذكَّرت السيدةُ شيماء أن هذه الأغنيةَ مِلكٌ لها، مثلما هى مُلكٌ لكلِّ مصرىّ. كانت تغنيّها «لمصر» فى طفولتها فى طابور الصباح، مثلما غنّاها كلُّ أبناء جيلى. لا أدرى عن الجيل الحالى، الذى أتمنى ألا يَصْدُقَ عنهم ما سمعته، من كونهم حُرِموا غناءَ نشيدٍ وطنىّ، مثلما حُرموا تحيةَ عَلم مصرَ، بل ربما حُرِموا طابورَ الصباح ذاتَه!! أرسلتْ لى رسالتها لتسألنى: هل هى محقَّةٌ فى انزعاجها؟ كون الأغنية من التراث المصرىّ الذى لا تجوز قرصنتُه وتحريفُ كلماته، حتى وإن كانت الكلمة المحذوفة: «مصرُ» قد استبدل بها كلمةُ شريفة وغالية هى: «القدس»! قالت: «الأغنية دى أعتقد فعلاً أننى أسمعها منذ صغرى وفى أفلام الحروب والثورة الأبيض والأسود تغنى باسم مصر، وخطرتى فى بالى فى هذه اللحظة لأنى اتضايقت. أحسست إن الأغنية دى بتاعتنا ومينفعش تتحور وتتغير بالشكل ده، وبمرور الزمن هتكون هى الأصل واحنا اللى اقتبسناها منهم. الموقف رغم بساطته إلا أنه متعلق بالتراث والحقوق والملكية الفكرية والتاريخ. لأن اللى بيتنازل عن حقه فى حاجة صغيرة ممكن يتنازل عنه فى حاجة كبير. والا إيه؟» وأقول لها إنها مُحِقّةٌ فى انزعاجها. وإن الأمرَ أخطرُ من قرصنةِ أغنيةٍ من شعب؛ ونسبها إلى شعب آخر، مهما كان هذا الشعبُ غاليًا على قلب كلِّ مصريّ. وأخطرُ من قضية حفظ حقوق فكرية لشاعر ولبلد. الأمرُ متعلقٌ بسرقة قطعة من تاريخنا وذاكرتنا! والذاكرةُ إن سُرقت صار الإنسانُ جمادًا لا روحَ فيه. حتى الجمادُ يملكُ ذاكرتَه الخاصة. فيذكرُ المقعدُ مَن حمل، والكتابُ مَن قرأه، والخزانةُ أيَّ ثيابٍ حَوَت، تمامًا مثلما يذكرُ الوطنُ كلَّ مواطنيه الذين أنبتهم ترابُه، المخلصين منهم، والخائنين! هذه الأغنيةُ الفاتنة كانت نشيدَ مصرَ الوطنيّ ما بين عامى 1923- 1936. كتبها الشاعرُ الجميل مصطفى صادق الرافعى، ولّحن موسيقاها العذبةَ الموسيقارُ «صَفَر على»، وهى الآن النشيدُ الذى يغنيه طلبةُ كليّة الشرطة المصرية. أعلمُ أن لا أجهزةَ بمصرَ سوف تتحرك لدرء هذه القرصنة، وأعلمُ أن لا مسؤولَ سوف يغضبُ أو يتحرّك، وأعلمُ أن غضبَ السيدة شيماء وغضبى لن ينتهى، مثلما أعلمُ أننى لستُ بحاجة لتذكير أىَّ مصرىٍّ بتلك الأغنية، فالكلُّ يحفظها عن ظهر قلب، اللهم إلا الأجيال الناشئة الصغيرة، التى تعملُ كلُّ معاول الهدم من حولنا على تفريغ ذاكرتها، وتفتيت ارتباطها بمصر الجميلة، لكننى رغم كلّ ذلك، وبسبب كلّ ذلك، سأنقلُ لكم كلماتِ نشيدنا القومىّ، الذى محفورٌ عميقًا على سطوح أرواحنا. «اسلمى يا مصرُ إننى الفدا/ ذى يدى إن مدَّتِ الدنيا يدا/ أبدًا لن تستكينى أبدا/ إننى أرجو مع اليوم غدا/ ومعى قلبى وعزمى للجهاد/ ولقلبى أنتِ بعدَ الدين دين/ لكِ يا مصرُ السلامة/ وسلامًا يا بلادي/ إن رمى الدهرُ سهامَه/ أتّقيها بفؤادى/ واسلمى فى كلِّ حين/ أنا مصريٌّ بنانى من بنى/ هرمَ الدهرِ الذى أعيا الفَنا/ وقفةُ الأهرام فيما بيننا/ لصروف الدهر وقفتى أنا/ فى دفاعى وجهادى للبلاد/ لا أميلُ لا أمَلُّ لا ألين/ لكِ يا مصرُ السلامة/ وسلامًا يا بلادي/ إن رمى الدهرُ سهامَه/ أتقيها بفؤادي/ واسلمى فى كلِّ حين./ ويكَ يا من رامَ تقييدَ الفلَك/ أيُّ نَجم فى السما يخضعُ لكْ/ وطنُ الحرِّ سمًا لا تُمتلك/ والفتى الحرُّ بأفقه مَلك/ لا عدا يا أرضَ مصرٍ بكِ عاد/ إننا دون حماكِ أجمعين/ لكِ يا مصرُ السلامة/ وسلامًا يا بلادي/ إن رمى الدهرُ سهامه/ أتقيها بفؤادي/ واسلمى فى كل حين./ للعُلا أبناءَ مصرٍ للعُلا/ وبمصرٍ شرِّفوا المستقبلَ/ وفِدًا لمصرنا الدنيا فلا/ نضعُ الأوطانَ إلا أولا/ جانبى الأيسرُ قلبُه الفؤاد/ وبلادى هى لى قلبى اليمين/ لكِ يا مصرُ السلامة/ وسلاما يا بلادي/ إن رمى الدهرُ سهامَه/ أتقيها بفؤادى/ واسلمى فى كلِّ حين». [email protected]