انتهى الحديث فى المقال السابق ب«المصرى اليوم» (25/10) إلى عدد من النقاط، يمكن تلخيصها فيما يلى. أولاً: إن مصر مقبلة على مرحلة فريدة – غير مسبوقة – فى تاريخها المعاصر، نتجت عن غموض مستقبل النظام السياسى بعد الرئيس مبارك، فضلاً عن طرح سيناريو التوريث. ثانياً: إن هناك حاجة فى مواجهة هذا الوضع لإيجاد هيئة شعبية أو لجنة أو مجلس (أياً كانت التسمية) لمواجهة هذا الوضع. ثالثاً: إنه لابد من فترة انتقالية بين نهاية النظام القديم وبداية النظام الجديد المنشود. هذه النقاط كانت– فى الواقع– محل توافق– بشكل أو بآخر- بين كل من تناولوا هذا الموضوع من الكتاب والمفكرين والسياسيين، مع اختلاف الصياغات والتسميات، كما ذكر الأستاذ حمدى قنديل فى مقالته ب«المصرى اليوم» (26/10)، التى أشار فيها أيضاً إلى كتابات د. يحيى الجمل، ود. حسن نافعة، ود. حازم الببلاوى، ود. سعد الدين إبراهيم.. وغيرهم من الصحفيين والكتاب المعارضين والمستقلين. غير أن هذه الأفكار اكتسبت زخماً إضافياً قوياً، عندما طرحها الأستاذ محمد حسنين هيكل فى حديثه ل«المصرى اليوم» (21 و22/10)، ولكن من خلال الصياغات «الهيكلية» الخاصة، حيث تحدث عن فكرة تكوين ما سماه «مجلس أمناء الدولة والدستور»، وحدد له مهام محددة. الأزمة إذن قادمة لا محالة، عقب اختفاء الرئيس من المسرح السياسى، وعبّر عنها وأثارها جميع رموز المعارضة والمستقلين فى مصر. واهتمام الرأى العام والنخبة المصرية بهذا الموضوع الحيوى أمر منطقى جداً ومشروع جداً، بل إن تجاهله سوف يكون شيئاً شاذاً وغريباً. إن هذا الظرف وهذا النقاش أو الجدال يقدم لنا فرصة ممتازة للتعرف على مواقف الحزب الوطنى، وعلى أدائه إزاء قضية لا يختلف اثنان على أهميتها وحيويتها، أى قضية الخلافة السياسية. بل إن هذا الظرف يخلق تحدياً حقيقياً للحزب الوطنى وقدرته على البقاء وعلى التطور، وعلى الإجابة عن سؤالين مهمين، هما: هل الحزب الوطنى يمثل نموذجاً لحزب «ديمقراطى»، كما يوحى بذلك اسمه، سواء فى آلياته الداخلية أو فى سياساته العامة؟ وبناء على ذلك، هل سوف يكون الحزب الوطنى قادراً على الاستمرار فى الوجود إذا حدث تحول ديمقراطى حقيقى فى مصر، أم أنه سيزول أو يتلاشى، باعتباره أحد أهم أعمدة النظام السلطوى القائم؟ لقد مر سلوك الحزب الوطنى إزاء الحوار أو الجدال الذى ثار فى الصحافة والإعلام حول قضية الخلافة السياسية، والمخاوف من التوريث (سواء من خلال قياداته مباشرة، أو من خلال كتابه وصحفييه) بمرحلتين، الأولى: هى التجاهل الكامل لما طرحه الكتاب والمفكرون والمعلقون، المعارضون والمستقلون، وكأن الأمر لا يتعلق بمصر على الإطلاق، وإنما ببلد آخر بعيد لا يهمنا أمره. أما المرحلة الثانية، فكانت عقب أن تناول الأستاذ محمد حسنين هيكل الموضوع فى حديثه المشار إليه ب«المصرى اليوم»، حيث انفجر رد فعل أوركسترالى منظم لتفنيد آراء هيكل ومقترحاته، عبر تعليقات وتحليلات امتلأت بها الصحافة الحكومية، وامتدت من معالجات حاولت أن تكون هادئة ورصينة، إلى أن وصلت– من الناحية الأخرى– إلى تعليقات فجة، بل بذيئة، تسابق فيها بعض صحفيى الحزب، فضلا عن اتهامات مباشرة أو غير مباشرة لخدمة أهداف أو أجندات خارجية (وأمريكية بالذات)! كما تحدث– من ناحية أخرى– أكثر من قيادة بارزة فى الحزب الوطنى، مثل د. مفيد شهاب، ود. على الدين هلال، لتفنيد آراء محمد حسنين هيكل، باعتبار أن آراءه خيالية ومتجاهلة أو معارضة للدستور والشرعية الدستورية. إن هذه المواقف، من جانب الحزب الوطنى، من خلال صحفييه وكتابه ومسؤوليه، إزاء قضية شديدة الحيوية، أى قضية الخلافة السياسية، توضح لنا بجلاء أكثر من حقيقة: الأولى: أننا إزاء حزب أقرب لأن يكون حزباً سرياً لا علنياً! صحيح أنه حزب «شرعى»، وقراراته وأفكاره معروفة ومعلنة، ويمارس عمله فى بيئة سياسية يفترض أنها تعددية، ولكنه فى الواقع نموذج فى عمله وآلياته الداخلية للأحزاب الواحدة فى النظم اللاديمقراطية، حيث تدور الصراعات السياسية داخل غرف مغلقة، وبين تكتلات وأجنحة داخلية، يدور بينها صراع مكتوم، لا تعرف نتائجه إلا عندما يتفجر بين الحين والحين، وذلك هو الفرق الواضح بين الحزب فى النظام الديمقراطى، حيث يكون الرأى العام شريكاً حاضراً فى الحوار والتفاعل الداخلى فى الحزب، وبين الحزب فى النظام اللاديمقراطى، حيث يعزل الرأى العام تماماً عما يحدث داخل الحزب، ولا شك فى أن قضية التوريث هى نموذج لذلك النوع من القضايا الحساسة، التى تستأثر بها قلة داخل الحزب، والتى أيضاً تثير بلا شك رفض وغضب أجنحة أخرى، ولكن الصراع يظل دائماً مكبوتاً ومحكوماً. وهكذا، وبالرغم من أن مخطط أو مؤامرة التوريث تجرى على قدم وساق من خلال تصرفات وأنشطة يقوم بها الحزب أساساً، وواضحة تماماً أمام الرأى العام، فإن أحداً من الحزب لم يجرؤ حتى الآن ليقول كلاماً مفيداً بشأنه. ولذلك عندما أشار د. أحمد نظيف، رئيس مجلس الوزراء، فى تصريح عابر له يوم 27/10، إلى إمكانية ترشيح جمال مبارك فى انتخابات الرئاسة المقبلة، قامت الدنيا ولم تقعد، وكأنه فجر مفاجأة كبيرة، وأذاع سراً لأول مرة! إنه– ببساطة– خرج عن تقاليد الحزب السرى الذى ينتمى إليه. الحقيقة الثانية: أننا إزاء حزب جامد لا حزب مرن! وتسبغ أدبيات الأحزاب السياسية صفة «المرونة» على تلك الأحزاب التى تستطيع أن تتطور، وأن تكيف نفسها مع الظروف والتحديات المتغيرة فى البيئة السياسية من حولها. أما الأحزاب الجامدة، فهى تلك التى تقف عاجزة عن التطور والتغير، وفقا للظروف المتغيرة (سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.. الخ). إن تلك السمة ترتبط بداهة بطبيعة النظام ككل، بل إن الحزب الحاكم يلخص- أكثر من أى شىء آخر– الخصائص الجوهرية للنظام السياسى. وهنا، مرة أخرى، فإن قضية الخلافة السياسية فى مصر أثبتت مدى جمود الحزب الوطنى، وعجزه عن الاستجابة الخلاقة لظرف سياسى جديد، غير مسبوق، هو: احتمال خلو منصب رئيس الجمهورية، وعدم وجود نائب له. فالمفترض– نظريا على الأقل– أن يكون الحزب قادراً على إفراز قيادات متعددة جديدة، قادرة على الترشح للمهام السياسية المختلفة، بما فيها رئاسة الجمهورية، ولكن الحال لم يكن أبداً كذلك. واتجه الحزب إلى النمط نفسه القديم للخلافة السياسية، أى «التوريث»، بل الأدهى والأنكى التوريث العائلى! وكأن هذا الحزب الكبير والعريض، بخبراته وقياداته وملايين أعضائه، لم يجد سوى نجل رئيس الجمهورية ليقدمه ويؤهله للترشيح. وبعبارة أخرى، فإن القالب الموروث منذ خمسة عقود، والذى يكبل الحزب الوطنى، يجعله عاجزاً عن أى استجابة جادة أو فعالة للظروف المتغيرة التى تموج بها مصر الآن. والنتيجة المنطقية الوحيدة لحالة الجمود أو «التصلب»، تلك التى يتسم بها هذا النوع من الأحزاب، وبسبب انعدام «المرونة» لديها، هى أنها «تنكسر» أمام التحديات الحقيقية. وذلك هو ما يفسر– مثلاً – انكسار وتحطم الأحزاب الشيوعية القديمة فى أوروبا الشرقية أمام عواصف التغيير السياسى، على عكس المرونة التى تمتع بها- على نحو فريد– الحزب الشيوعى الصينى، مثلا. الحقيقة الثالثة، التى يكشف عنها موقف الحزب الوطنى من التوريث، هى تلك المركزية المفرطة التى يتسم بها الحزب، والتى تجعل مقدراته وقضاياه الحيوية محكومة بحفنة صغيرة من الأشخاص على قمته، حتى وإن كانت هناك «انتخابات» تبدو «ديمقراطية» على بعض المستويات، إننا إذن إزاء أكثر من ظاهرة، فالذى يحدث فعلياً هو أن تتسابق القواعد والقيادات المحلية لإثبات ولائها لمشروع «التوريث»، حتى تحافظ على مقاعدها وامتيازاتها، مما يؤدى فى النهاية إلى سيادة العناصر الأكثر تملقاً وانتهازية. ومن ناحية أخرى، فإن هذا المناخ يجعل فرصة وجود معارضة حقيقية داخل الحزب مرتبطة إلى حد بعيد بوجود الشقاقات على قمة الحزب، تتفجر نتائجها علنا بين الحين والآخر. فى هذا السياق، فإنه من الصعب القول بأن مشروع التوريث لا يجد مقاومة داخل الحزب، إنها بالقطع موجودة، ولكنها مكبوتة ومحاصرة. فى ضوء ذلك، فإن الرد على السؤال: هل الحزب الوطنى «ديمقراطى» فعلا؟، وهل يمكن أن يكون فاعلاً فى إحداث تطور ديمقراطى حقيقى فى مصر فى المستقبل؟ لن يكون أبداً بالإيجاب.