عندما خرج الإخوان من أزقة وأحشاء القاهرة إلى «وش» الدنيا فى ميدان العتبة أولاً ثم فى ميدان الحلمية، وعندما رُزقوا النجاح والتوفيق، أعلن حسن البنا فى محاضراته المتكررة أو فى كتاباته عن الفكر السياسى للإسلام، منها: (1) المؤتمر الخامس الذى عُقد فى سراى آل لطفى سنة 1938 وكان نقطة تحول فى تاريخ الإخوان. (2) مؤتمر طلاب الإخوان الذى عُقد سنة 1938 بميدان العتبة، وتحدث فيه عدد من مندوبى الطلاب، وختمه الأستاذ البنا بعرض واف له. (3) تقرير إجمالى بالإضافة إلى رسالته المسهبة «مشكلاتنا السياسية فى ضوء النظام الإسلامى». (4) مشكلاتنا فى ضوء النظام الإسلامى. ونحن نعرض هنا فكره من واقع رسائل الإخوان بكل أمانة، وبعد عرضها سنقدم ملاحظاتنا عليها، وأعتقد أن على القارئ أن يُلم بهذا الفكر حتى تكون لديه فكرة عنه.. وله بالطبع أن يقبله أو يرفضه. (1) فى المؤتمر الخامس انتقد المفاهيم السائدة عن الإسلام، فقال: «فمن الناس من لا يرى الإسلام شيئا غير حدود العبادة الظاهرة، فإن أداها أو رأى من يؤديها اطمأن إلى ذلك ورضى به وحسبه قد وصل إلى لب الإسلام، وذلك هو المعنى الشائع عند عامة المسلمين، ومن الناس من لا يرى الإسلام إلا الخلق الفاضل والروحانية الفياضة، وهذا الغذاء الفلسفى الشهى للعقل والروح والبعد بهما عن أدران المادة الطاغية الظالمة، ومنهم من يقف إسلامه عند حد الإعجاب بهذه المعانى الحيوية العملية فى الإسلام فلا يتطلب النظر إلى غيرها ولا يعجبه التفكير فى سواها، ومنهم من يرى الإسلام نوعًا من العقائد الموروثة والأعمال التقليدية التى لا غناء فيها ولا تقدم معها، فهو متبرم بالإسلام وبكل ما يتصل بالإسلام، وتجد هذا المعنى واضحًا فى نفوس كثير من الذين ثقفوا ثقافة أجنبية ولم تتح لهم فرص حسن الاتصال بالحقائق الإسلامية فهم لم يعرفوا عن الإسلام شيئا أصلا، أو عرفوه صورة مشوهة بمخالطة من لم يحسنوا تمثيله من المسلمين». وقدم الإسلام كما يفهمه الإخوان المسلمون: أولاً : نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنظم شؤون الناس فى الدنيا وفى الآخرة، وإن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحى مخطئون فى هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف، والقرآن الكريم ينطق بذلك كله ويعتبره من لب الإسلام ومن صميمه، ويوصى بالإحسان فيه جميعه. ثانيًا: إلى جانب هذا يعتقد الإخوان أن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها هو كتاب الله تبارك وتعالى، وسُنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدًا. ثالثاً: وإلى جانب هذا أيضًا يعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام كدين عام ينظم كل شؤون الحياة فى كل الشعوب والأمم لكل الأعصار والأزمان، جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات القواعد الكلية فى كل شأن من هذه الشؤون، ويرشد الناس إلى الطريقة العملية للتطبيق عليها والسير فى حدودها. وقال: إن فكرة الإخوان المسلمين (تضم كل المعانى الإصلاحية). وتحدث عن القوة والثورة، فقال: «إن الإسلام شعاره القوة فى كل نظمه وتشريعاته، فالقرآن الكريم ينادى فى وضوح وجلاء : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، والنبى صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف). ولكن الإخوان المسلمين أعمق فكرًا وأبعد نظرًا من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصوا إلى أعماقها ولا يزنوا نتائجها وما يقصد منها وما يراد بها، فهم يعلمون أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ويلى ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح. أما الثورة فهى أعنف مظاهر القوة، فنظر الإخوان المسلمين إليها أدق وأعمق، خاصة فى وطن كمصر جرب حظه فى الثورات فلم يجن من ورائها إلا ما تعلمون، وبعد كل هذه النظرات والتقديرات أقول لهؤلاء المتسائلين إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدى غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولا، وينتظرون بعد ذلك ثم يقدمون فى كرامة وعزة، ويتحملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح، وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصارحون كل حكومة فى مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر فى إصلاح عاجل وعلاج سريع لهذه المشاكل فسيؤدى ذلك حتمًا إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال وإهمال مرافق الإصلاح، وليست هذه المشاكل التى تتعقد بمرور الزمن ويستفحل أمرها بمضى الأيام إلا نذيرًا من هذه النذر، فليسرع المنقذون بالأعمال. وتحدث عن الإخوان والحكم، فقال: «إن الحكم من العقائد والأصول، وهو عروة من عرى الإسلام، فإذا كان التشريع الإسلامى فى واد والتشريع العملى والتنفيذى فى واد، فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدى الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف، هذا كلام واضح لم نأت به من عند أنفسنا، ولكننا نقرر به أحكام الإسلام الحنيف، ومع هذا فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامى قرآنى فهم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم، وسيعملون لاستخلاصه من أيدى كل حكومة لا تنفذ أوامر الله. ومع هذا فالإخوان أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذه الحال، فلابد من فترة تنتشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة». ورأى أن نظام الحكم الدستورى هو أقرب نظم الحكم القائمة فى العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظامًا آخر. وإذا كان الله ورسوله قد حرم الزنى، وحظر الربا، ومنع الخمور، وحارب الميسر، وجاء القانون يحمى الزانية والزانى، ويلزم بالربا، ويبيح الخمر، وينظم القمار، فكيف يكون موقف المسلم بينهما ؟ أيطيع الله ورسوله ويعصى الحكومة وقانونها، والله خير وأبقى، أم يعصى الله ورسوله ويطيع الحكومة فيشقى فى الآخرة والأولى؟ فكيف يتأتى هذا مع قانون يبيح ويحمى هذا كله؟ وتحدث عن الحدود الجغرافية التى تقسم العالم الإسلامى، كما تحدث عن الخلافة كرمز لوحدة المسلمين. وكان فى هذا كله ملاحظاً الاعتبارات القائمة ويعتبر أن كل هذه قضايا يفصل فيها الزمان. (2) وفى مؤتمر طلبة الإخوان الذى عقده سنة 1938 عُنى الإمام الشهيد بأن يفرق ما بين السياسة والحزبية، فقال: «إن الفارق بعيد بين الحزبية والسياسة، وقد يجتمعان وقد يفترقان، فقد يكون الرجل سياسيًا بكل ما فى الكلمة من معان وهو لا يتصل بحزب ولا يمت إليه، وقد يكون حزبيًا ولا يدرى من أمر السياسة شيئاً، وقد يجمع بينهما فيكون سياسيًا حزبيًا أو حزبيًا سياسيًا على حد سواء، وأنا حين أتكلم عن السياسة فى هذه الكلمة إنما أريد السياسة المطلقة، وهى النظر فى شؤون الأمة الداخلية والخارجية غير مقيدة بالحزبية بحال.. هذا أمر». وانتقد الأستاذ البنا فكرة اقتصار الإسلام على العبادات، فقال: «فحدثونى بربكم أيها الإخوان، إذا كان الإسلام شيئا غير السياسة وغير الاجتماع، وغير الاقتصاد، وغير الثقافة.. فما هو إذن؟ أهو هذه الركعات الخالية من القلب الحاضر، أم هذه الألفاظ التى هى كما تقول رابعة العدوية: استغفار يحتاج إلى استغفار.. ألهذا أيها الإخوة نزل القرآن نظامًا شاملاً كاملاً محكمًا مفصلا: (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَىء وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: 89)؟ أنا أعلن أيها الإخوان من فوق المنبر بكل صراحة ووضوح وقوة، أن الإسلام شىء غير هذا المعنى الذى أراد خصومه والأعداء من أبنائه أن يحصروه فيه ويقيدوه به، وأن الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وسماحة وقوة، وخلق ومادة، وثقافة وقانون. وأن المسلم مطالب بحكم إسلامه أن يُعنى بكل شؤون أمته، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. [email protected]