■ مع تزايد وتيرة الاتهامات الموجَّهة لحزب الله، وما سمى بتنظيمه فى مصر، فإن مفهوم الأمن القومى يكتسب أهمية كبيرة حين يترجم إلى أمن قومى عربى، وفى قلبه «أمن قومى مصرى»، فإذا فُهم الأخير باعتباره جزءاً من الأول ويدور فى فلكه، وأنه لا قوام له إلا بالارتباط الصحيح غير المعوج به، فإننا فى هذا السياق نتحدث عن أمن قومى حقيقى، وليس مفتعلاً، أمن قومى للدولة وللشعب وليس للنظام وللقوى المستفيدة منه، فحسب.. إننا بهذا المعنى، نؤكد أن أبرز تحديات الأمن القومى المصرى «الصحيح» وليس المعوج - كما يروج هذه الأيام - هو ذلك الذى تكون إسرائيل فيه هى العدو المطلوب مواجهته بجميع الوسائل، ليس بالضرورة الحرب المسلحة - كما يروج البعض - لكى يخيفوا الناس ويزيّفوا وعيهم! أو على الأقل تحييد خطره، ولا قيمة هنا لما يسمى باتفاقات كامب ديفيد، فلقد انتهكتها إسرائيل «78 مرة طيلة ال30 عاماً الماضية منذ توقيعها عام 1979، ولدينا إحصائيات دقيقة ستنشر فى الموسوعة التى نعدها عن (ثلاثون عاماً من التطبيع)، التى ستصدر قريباً عن دار الشروق الدولية بإذن الله» - ومارست التجسس الفاضح، المكلف مادياً وأمنياً على مصر «57 مرة طيلة السنوات السابقة» والوثائق لدينا. ■ هل تتذكرون عائلة «مصراتى» التى بال «من البول» والدهم على المحكمة التى كانت تحاكمه بتهمة التجسس، هل تتذكرون الجاسوس عزام الذى أهان مصر بعد الإفراج غير المفهوم عنه! ثم إن إسرائيل أهانت الدور المصرى الإقليمى فى جميع الملفات الساخنة وفى مقدمتها الملف الفلسطينى عشرات المرات، ورغم ذلك يتعاملون مع تل أبيب «بحنان بالغ» وبتسامح بالغ! على أى حال: إذا ما فهم الأمن القومى المصرى بمعناه الصحيح فإن مواجهة الخطر الإسرائيلى تأتى فى مقدمته، وليس تقديم الحماية له كما حدث، ولايزال يحدث! ■ إن هذا يدفعنا إلى الحديث عن تقاليد وثوابت الأمن القومى العربى، فى ظل التطورات الجديدة فماذا عنه؟ ■ ■ ■ إن ما يجرى للأمة العربية هذه الأيام، وبخاصة فى مناطق الالتهاب الرئيسية «فلسطين - لبنان - العراق - السودان»، دفع العديد من المفكرين والسياسيين إلى الكفر بمفهوم «الأمن القومى العربى»، وبأنه مفهوم لا وجود له إلا فى رؤوس بعض المتفائلين من أمثالنا من الكتاب والمثقفين الحالمين، وتمضى هذه التحليلات خطوة أخرى لتقول إن هذا المفهوم يفترض - وفقاً لتعريفه الشائع - وجود «الدولة» القومية الواحدة و«الإدراك القومى المشترك» و«السيادة القومية غير الناقصة» كعناصر أصيلة يتم تنظيمها وخلق المفاهيم حولها، فماذا عن الأمة العربية، إنها ببساطة تفتقد هذه الأيام العناصر الثلاثة مجتمعة، أو على الأقل تفتقد اثنين منها، ومن هنا يصير مجرد الحديث عن مفهوم الأمن القومى العربى حديثاً من باب التفكير بالأمانى. ولكن المعالجة الأكثر صواباً ينبغى أن تصبح معالجة لما ينبغى أن يكون وليس «لما هو كائن بالفعل»، وإن ظل الحاضر - دائماً - عنصراً فاعلاً فيها. وإذا سلمنا بهذه الحقيقة فإنه يمكن الحديث عن إطار عام أصولى مفترض للأمن القومى العربى ظل ثابتاً تقريباً قبل قيام الكيان الصهيونى عام 1948، إلى أن جاءت تلك الدولة العدوانية فأدخلت عليه متغيرات جديدة، فرضت عليه تطوراً جديداً، وهذا الإطار العام يجعل من الماضى القريب، وتحديداً قبل وفاة عبدالناصر 1970، خلفيته الأصيلة فى التعامل مع المفهوم، حيث يتعامل مع المنطقة العربية كجسد سياسى واحد، ويمتلك مقومات للقوة وعناصر للضعف، وله أهداف واحدة ومحاط بتهديدات مشتركة، ومن هذا المنطلق نضع الإطار العام للأمن القومى العربى كما استقر بعد نشأة الكيان الصهيونى وسلسلة اعتداءاته على البلاد العربية المستمرة حتى يومنا هذا. ■ ■ ■ خلصنا فيما سبق أن كتبناه إلى تعريفات متعددة لمفهوم «الأمن القومى» لم نشأ أن نمحورها حول تعريف واحد، حتى يسهل إدراك المفهوم من زوايا مختلفة، ولكن يمكن تقديم تصور مبدئى للمفهوم يسمح بتطبيقه على أى دولة تمتلك مقومات «الدولة القومية» أو «الدولة - الأمة» بمعنى أدق، وهو التصور الذى يرى أن «الأمن القومى» مفهوم معقد، يعنى «قدرة الدولة / الأمة على حماية كيانها الذاتى ونظام قيمها الداخلية والتاريخية الثابتة»، والقدرة هنا تتدرج من القدرة الاقتصادية، فالسياسية فالعسكرية، على حمايتها من خطر التهديد المباشر، أو غير المباشر، الخارجى أو الداخلى، والمسبب لحالة من الهزيمة، التى تتدرج من التعطيل المؤقت لعمليات التنمية إلى التهديد الكامل لحق البقاء الإرادى، فإذا كان هذا هو المقصود بالأمن القومى، فماذا عن الأمن القومى العربى؟ إن الوطن العربى - بداية - يحمل بين طياته العناصر الأصيلة المكونة لهذا المفهوم ولغيره من مفاهيم الوحدة والتجانس، وإن لم يجد إلى الآن من يصوغها ويحيلها إلى مبادئ، نظراً لأن أغلب الحكام العرب يسبّحون اليوم بحمد واشنطن، العدو الاستراتيجى للأمن القومى العربى. إن الوطن العربى من خلال امتداده الإقليمى، الأرض الواحدة، ومن خلال وحدة تاريخه، لغته، وعنصر الولاء القومى بين شعوبه، ووحدة الأمل والمصير، يمتلك مقومات «الأمة الواحدة»، الأمة العربية و«الدولة الواحدة». من هنا فإن الأمن القومى العربى كتصور مبدئى يمكن أن يعرف وفق المعايير السابقة باعتباره قدرة الأمة العربية من خلال نظامها السياسى الواحد - المفترض - على حماية الكيان الذاتى العربى ونظام القيم العربية التاريخية الثابتة - المادية والمعنوية - ومن خلال منظومة من الوسائل الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وحمايتها من خطر التهديد المباشر أو غير المباشر، خارج الحدود - أى دولياً - أو داخل الحدود، بدءاً بالتخلف وحالات التبعية لواشنطن خاصة بعد غزوها للعراق وانتهاء بإسرائيل، وهو التهديد الذى سبب - ولايزال - حالة من الهزيمة والانكسار العربى تمثلت مظاهرهما فى فقدان الإرادة العربية لاستقلاليتها وفى تعطيل عمليات التنمية وبروز دور الشركات متعددة الجنسية، وفى تضخم الظاهرة الصهيونية إلى حد الاعتراف بشرعيتها، وهى المظاهر التى قد تنتهى بتهديد حق البقاء الإرادى للجسد العربى. إن الأمن القومى بهذا المعنى يصبح تعبيراً عن ثلاثة مطالب رئيسية، على الجسد العربى أن يحققها ليمتلك بهذا معطيات حق البقاء أى معطيات أمنه القومى. المطلب الأول: الأمن القومى العربى كتعبير عن فكرة «الضرورة»، التى تعنى حق الدفاع عن النفس، وهو الحق الذى يتطلب بالتبعية القدرة العسكرية المتقدمة والمنظمة والمتجانسة. المطلب الثانى: الأمن القومى كتعبير عن «وحدة الإرادة» تجاه «وحدة الخطر»، بهذا المعنى، الوحدة العربية ضرورة سابقة على بناء المفهوم، ليس فقط الوحدة العربية التى بلا مضمون، بل «الوحدة العربية» النابعة من الإدراك الواحد المشترك للخطر المحيط أو الدخيل «إسرائيل نموذجاً» أو الداخلى. المطلب الثالث: الأمن القومى العربى كتعبير عن «حق التنمية المستقلة وبناء الذات»، حيث تصير التنمية هنا هى جوهر الأمن فالتخلف والتبعية مصدران خصبان لاختراق حاجز الأمن أياً كانت قوته، ومن هنا فإن التنمية العربية المستقلة النابعة من التكامل بين أجزاء الوطن العربى تمثل المناعة الذاتية غير العسكرية للأمن القومى العربى. مطالب ثلاثة إذن، من تعانقها وتفاعلها يتحدد الوجه الحقيقى لأمن الوطن العربى، وهى المطالب التعريفية التى بإحالتها إلى متغيرات إجرائية تصبح حديثاً عن أوجه القوة وأوجه الضعف داخل الجسد العربى. ■ ■ ■ إن مناطق الضعف فى الجسد العربى يمكن بلورتها فى الآتى: ■ إخفاق أغلب عمليات التنمية المستقلة غير المعتمدة على عنصر الاستثمارات الخارجية أو الشركات متعددة الجنسية، ويمثل عدم التوظيف الجيد للإمكانات العربية البشرية والمادية - البترولية - مثالاً واضحاً لهذا الإخفاق، وكيف تحول نفط الخليج على سبيل المثال إلى نقمة على أهله وعلى المنطقة، وليس إلى نعمة كما كان مفترضاً. ■ الوجود العنصرى الصهيونى بفلسطين العربية كنموذج لأحد معوقات النمو والتقدم الاجتماعى والسياسى بل الحضارى العربى، وكنموذج للفشل وللضعف العربى، مضافاً إليه وخادماً له الاحتلال الأمريكى للعراق وأفغانستان. ■ سيادة أنظمة الاستبداد والفساد والعائلة الواحدة، التى لكى تبقى توظف كل وسائل الكذب والدجل الإعلامى والسياسى، لتصرف الجماهير عن مواجهة وإسقاط هذه الأنظمة التى هى الحليف الطبيعى المعادى للأمن القومى العربى فى معناه الصحيح. ■ إن الأمن القومى العربى - وفى قلبه أمن مصر القومى - لا يستقيم عقلاً، ومصلحة دونما موقف جاد وقوى ضد الخطر الإسرائيلى، وفى هذا السياق ينبغى على العقلاء فى أنظمة الحكم «إن كان ثمة عقلاء» أن يعتبروا المقاومة بعداً إضافياً وليس خصماً من رصيدها، وأن يرتبوا معها سبل الدعم والتعاون ومواجهة العدو الحقيقى للأمة ولأمنها القومى، العدو الصهيونى، لا أن ينصبوا لها سيركاً من الشتائم، والشتامين عندما تخطئ فى التقدير أو الفعل، يسىء لتلك الأنظمة ويكشفها أكثر مما يسىء للمقاومة التى يحاصرونها ليل نهار، سواء بالجغرافيا أو عبر السياسة وقوة النفط الذى ملأ الأفواه بديلاً عن الماء. ولا حول ولا قوة إلا بالله. [email protected]