أثناء تقديم رئيس الوزراء جوردون براون خطة الحرب ضد الطالبان فى باكستانوأفغانستان، سأله نائب عمالى فى مجلس العموم عما هو أسوأ: تحول الساسة إلى جنرالات أم الجنرالات إلى ساسة؟ الحكاية أن السير ريتشارد دانات، الذى كان رئيسا لهيئة أركان حرب القوات البريطانية حتى تقاعده فى أغسطس، عرض عليه حزب المحافظين المعارض تعيينه مستشارا لشؤون الدفاع، مما قد يكون تمهيدا لضمه لمجلس وزراء الحكومة التى سيشكلونها بعد كسبهم المتوقع للانتخابات فى مايو المقبل. كما تسربت أنباء عن وعد المحافظين له بمقعد فى مجلس اللوردات (ومثل رئيس الوزراء، يحق لزعيم المعارضة تقديم أسماء مرشحين لتنعم الملكة عليهم بألقاب تدخلهم مجلس اللوردات). ولم يسبق من قبل تعرض رئيس أركان لمحاولات هز صورته أمام الشعب من جانب جهاز دعاية الحزب الحاكم مثل السير ريتشارد. فجهاز دعاية حزب العمال الجديد يشبه ساحر قبائل أفريقيا بسحره الأسود، كترجمة مفهومية لا حرفية، ل«spin-doctors»،. التعبير أمريكى ويعنى سحر البروباجندا غير المباشرة لتشويه سمعة الخصوم، أو خداع الرأى العام بإعادة تغليف السياسات الضارة أو ابتكار تعبيرات تربك الأذهان. المجموعة التى ساعدت زعيم العمال السابق تونى بلير على تهميش اليساريين التقليدين فى الحزب، والفوز الكاسح فى ثلاثة انتخابات متتالية، أتقنت سحر الدعاية الأسود، بقلب الأكاذيب لحقائق، والتفنن فى إخفاء المعلومات التى قد تهدد شعبية بلير وسط غابة كثيفة من الأخبار. كاختيار يوم 11 سبتمبر 2001 مثلا لنشر خبر إحصائية عن تدهور غير مسبوق فى خدمات المواصلات كنتيجة مباشرة للسياسة البليرية، بعبارات لا يفهمها إلا دكتور فى الاقتصاد أثناء تركيز العالم انتباهه على صور احتراق برجى مركز التجارة العالمى. استهدف جهاز الدعاية السوداء فى حكومة العمال السير ريتشارد، بشائعات ومبالغات سلبية، لأنه انتقد فى الصحف النقص الخطير فى المعدات الذى تعانى منه قواته. وبعد خروجه من الجيش قال للصحفيين إنه طلب من رئيس الوزراء التعجيل بإرسال 2000 جندى إضافى إلى أفغانستان لتخفيف الأعباء عن القوات الموجودة هناك، لكن براون، حسب قول قائد الأركان السابق، رفض الطلب واعدًا بإرسال 500 جندى. وقرار رئيس الوزراء جاء كحل سياسى وسط بين معارضة شعبية للحرب والحاجة العسكرية. وضباط الجيش، كغيرهم من موظفى الدولة، محايدون يتبعون التاج لا الحكومة التى تتبدل بالانتخاب بما فيها وزير الحربية نفسه كسياسى منتخب وليس عسكرياً. الخبراء العسكريون فى الوزارة لا يعبرون ابدا عن رأيهم علنا ولا يتدخلون فى السياسة، فحرفتهم التى يتقنونها هى الدفاع عن الوطن فقط بأوامر الساسة كممثلى شعب يكافئهم بإعادة انتخابهم، أو يرفدهم بانتخاب المعارضة. السير ريتشارد بعد تقاعده من الجيش، كسر القاعدة المتعارف عليها بتصريحات ذات طبيعة سياسية (وإن كان يعبر عن رأى كثير من ضباط الجيش فى الخدمة). ورغم شعبية السير ريتشارد، وصدق انتقاداته لعدم توفير الحكومة العمالية المعدات المطلوبة للجيش، فإن خبراء السياسة الدستورية أبدوا قلقهم من سرعة اندفاع رئيس الأركان السابق إلى عالم السياسة بعد شهرين فقط من تقاعده من الجيش. فتاريخيا يفخر العسكريون البريطانيون بنجاحهم وانتصاراتهم فى مجال تخصصهم، وبالتالى لا يقتربون من السياسة إلا نادرا، وبمسافة لا تزيد على تأليفهم كتبا عن حياتهم فى الجيش أو علاقاتهم بزعمائهم السياسيين أثناء الخدمة. النظم الديمقراطية ترسم خطا فاصلا بين العسكرى والسياسى، وكلاهما فخور بنجاحه فى مهنته التى يتقنها، ومحو الخط يعنى تقليد ديكتاتوريات فى العالم الثالث أنجبتها زيجات العسكر بالسياسة بعد فشلهم فى أداء مهمتهم الأصلية فى ميادين القتال.