ماذا بوسعه أن يفعل مجتمع عربى وقد عرف أخيراً طريقه إلى صناديق الاقتراع؟ هذا أحمد العبدالله، سائق حافلة بين بغداد والمحمودية، يستعد على طريقته لموسم انتخابى حافل، رجل طيب كادح لا يهمه أن تسميه الصحافة سمساراً انتخابياً أو مقاول أصوات بقدر ما يهمه كسب رزقه فى بلد مثخن الجراح، يشرح الرجل مهمته فى بساطة وعفوية قائلاً «بدأت بصيانة حافلتى والتحرى عن أفراد مجموعتى الذين تعودت نقلهم مجاناً إلى مراكز الاقتراع، إضافة إلى وجبة طعام يقدمها الحزب الذى أضمن له هذه الأصوات»، يسأله مراسل صحيفة، «الحياة» عما يتقاضاه من أموال، يسترسل الرجل الطيب قائلاً بكلمات لا تخلو من العتاب والإنذار «فى الانتخابات الماضية حصلت على مبلغ كبير لكن هذه المرة لن أكون مجبراً على الالتزام بالمبالغ السابقة، وإن لم يستجب الحزب لى سأبحث عن حزب آخر، فكل الأحزاب هنا تسعى إلى خطب ودى مع اقتراب موعد الانتخابات»! وهذا شيخ عشيرة يروى قيامه بتسجيل 100 دونم من أرضه باسم سمسار انتخابى مقرب من زعيم حزب سياسى لضمان أن يشركه فى قائمته الانتخابية، ينقل تقرير صحفى «الحياة 12/10/2009» أن أموالاً طائلة تدفع لمقربين من زعماء القوائم الانتخابية لتقديم أسماء المرشحين أو تأخيرها فى القائمة، ويشترط بعض زعماء القوائم فى المقابل على المرشحين الجدد كتابة تعهدات وإيصالات مالية آجلة الدفع تضمن الحصول على نسبة مئوية من راتب النائب حال فوزه فى الانتخابات». ■ ■ ■ فى هذا البلد ما يثير التأمل الممزوج بالتساؤل، ويستثير الإعجاب المصحوب بالقلق، هنا تاريخ من الكد والشقاء والثورات والقمع والخوف والدماء.. وشعب عريق يتوق إلى حقه الطبيعى فى الحياة والحرية والطمأنينة والكرامة بعد أن شارك ذات عصر بعيد فى صنع حضارة الإنسان، هنا طبيعة سخية أعطت نهرين خالدين وأرضاً تكتنز الثروات وسهولاً تشهق بالخصب والنماء، فلماذا لا يطمع الآخرون ولو على بعد آلاف الأميال؟ لكن هنا أيضاً كان لرجل آخر رأى آخر فاعتقد أن الأوطان لا تنهض إلا انتقاصاً من كرامة الإنسان، وحينما حاول النهوض بالوطن كانت حقبة الالتباس الكبير فاختلطت الشجاعة بالحماقة وسالت الدماء على ضفاف دجلة والفرات، وذات صباح إغريقى المشهد ذهب الرجل وبقى العراق، وعلى مدى خمس سنوات ظل العراق يبحث عن ذاته وسط الدمار والركام والأحزان والأشلاء وكابوس الاحتلال. أيقظت اللحظة الجديدة ما كان مستكناً فى أعماق الناس من انتماءات طائفية وعرقية وعشائرية.. استرد العراقيون هذه الانتماءات وكأنهم يكتشفونها اليوم فقط، لكن العراق نفسه كان فى حاجة إلى من يعيد اكتشافه، فكيف السبيل؟ بدت الديمقراطية هى الحل، نداء حكماء أثينا القديمة ووصفة بناء الدولة المدنية الحديثة مثلما عرفتها المجتمعات المتقدمة، لكن الديمقراطية المفعمة بالوعود والآمال فيما وراء البحار والمحيطات وقفت على حدود بلاد العرب تتأمل مشهداً تسكنه الغرائب والمخاوف والتحديات. كان السؤال الكبير، ومازال، هو كيف يمكن ترويض التعصب لعرق أو طائفة أو عشيرة لينصهر فى انتماء أكبر هو الانتماء للوطن؟ هل هى الانتخابات؟ ولم لا أليست هى أفضل الوسائل المتاحة لإعمال الديمقراطية؟ لكن ماذا عن الفقر والجهل والخوف والسلبية والعصبية؟ هل هى حتميات تاريخية أم واقع يمكن تغييره؟ سنقول جميعاً بل واقع يمكن تغييره.. ولم لا؟ فليس مطلوباً من الفقر أن يتحول إلى ثراء بل يكفى أن يتسلح بالكرامة، وليس مطلوباً أن يصبح الجهل حائزاً على شهادة دكتوراه، بل يكفيه قدر من الوعى، وليس مطلوباً من الخوف أن يتحول إلى تهور بل يكفى أن يتخلص من العجز، وليس مطلوباً من السلبية أن تصبح عنفاً، بل يكفى أن تخرج إلى صناديق الانتخابات. وليس مطلوباً من العصبية أن تفقد ذاتها بل أن تجعل انتماءها الأكبر للوطن، فالديمقراطية لا تخذل شعباً لكنها تحتاج أيضاً إلى شعوب لا تخذلها، فهذه الديمقراطية التى أوصلت أوباما إلى سدة الرئاسة الأمريكية دون أن يكون سليلاً لعائلة نافذة أو محتمياً بعشيرة قوية أو مدعوماً بقوى المال أو صاحباً لإمبراطورية إعلامية هى نفسها الديمقراطية التى تعانى فى الحاضر العربى مخاضها العصى والطويل. الديمقراطية فى المجتمعات التى لم تعرفها بعد حق مشروع وجدارة تحتاج إلى مؤهلات، لكن بين الحق والجدارة لا بد من واقع يصالح بين الاثنين، وعلينا نحن أن نصلح هذا الواقع. هل يمكن أن نرى فى انتخابات غربية حافلة مكتظة بالناس تتجه إلى مراكز الاقتراع لقاء وجبة غذاء أو مائة دولار؟ حسناً من هذه الناحية هذه مجتمعات مزدهرة لا تعانى الحاجة، فهل يحدث فى انتخابات غربية أن يقترع الناخبون استجابة لانتماء دينى أو طائفى أو عائلى، أم أنه فى الأسرة الصغيرة الواحدة يعطى كل فرد صوته لمن يراه الأصلح فى تبنى قضايا المجتمع وتطلعات الوطن؟ هذه تساؤلات لا تصادر الحق فى ديمقراطية عربية طال انتظارها فالبشر جديرون بالديمقراطية لأنهم بشر وكفى.. لكنها تساؤلات تحاول فقط أن تبحث عن مقومات اجتماعية وثقافية ونفسية يمكنها تأسيس مجتمع ديمقراطى، لا نريد أكثر من معرفة كيف نغير واقعنا ونطور ثقافتنا لكى لا نخذل الديمقراطية وهى التى لا تخذل أحداً؟! ■ ■ ■ للديمقراطية بصفة عامة أسئلتها المحيرة وجدلها الفلسفى، والأرجح أنها أفضل ما ابتدعه الفكر الإنسانى حتى الآن، ولن تصلح فكرة المستبد العادل لأن تكون بديلاً عن الديمقراطية فى بلادنا، فتجربة المستبد العادل كانت لحظات خاطفة فى التاريخ، ولا يمكن لدروس التاريخ أن تبنى على اللحظات الخاطفة. ليست تلك على أى حال هى القضية، القضية هى أن تطبيق الديمقراطية فى بلاد العرب يضعنا وجهاً لوجه أمام عدد من التساؤلات، ما الذى يجعل مواطناً يبيع صوته إن لم يكن هو رغيف الخبز؟ وما الذى يجعل هذا المواطن الفقير يرفض بيع صوته سوى الوعى؟ ثم ما الذى يجعل مواطناً ميسوراً واعياً يعزف عن المشاركة السياسية إن لم يكن هو الخوف؟ هى إذنَ ثلاثية واقع الفقر وأزمة الوعى وحالة الخوف التى تشكل مشهد اللحظة فى بلادنا، لكن علينا الاعتراف أنه فى إحدى أكبر الديمقراطيات العالم وهى الهند، لم يمنع الفقر ولا ربما الوعى من نجاح النموذج الديمقراطى هناك، ففى الهند تبلغ نسبة الأمية نحو 38٪ «تقرير أوضاع العالم ladecouverte الفرنسية طبعة 2008» وهى نسبة أعلى من إجمالى نسبة الأمية فى العالم العربى، وفى الهند أيضاً لا يتجاوز معدل الالتحاق بالتعليم الجامعى 12٪ من نسبة السكان فى سن التعليم الجامعى، بينما تبلغ هذه النسبة فى مصر 32٪ «نفس المصدر»، ما دلالة هذه المقارنات المحيرة؟ هل الاعتقاد فى تأثير الفقر على الديمقراطية هو اعتقاد مبالغ فيه إن لم يكن واهماً؟ ربما.. لكن المؤكد أننا نحن الذين نكتب عن الديمقراطية جلوساً على مقاعد وثيرة وفى غرف مكيفة الهواء لن نشعر أبداً بقسوة الحاجة التى تدفع مواطناً لأن يبيع صوته الانتخابى مقابل وجبة غداء، أو يعزف كلية عن الذهاب إلى صندوق الانتخابات لأنه مهموم برغيف الخبز أكثر من اهتمامه بالبرنامج الانتخابى لهذا المرشح أو ذاك، هذا عن الفقر فماذا عن الوعى؟ للوهلة الأولى يبدو الوعى هو بداية التغيير، لا شىء سوى الوعى ينير العقول ويوقظ الهمم ويمنح النفوس قوة وصلابة. لكن وبخلاف النموذج الهندى، الذى يبقى محيراً أو بالأقل استثنائياً، فإن الوعى فى الحاضر العربى إما غائب بفعل الأمية وإما مغيب بتأثير الإعلام الموجه، هذا الإعلام الموجه مازال مؤثراً رغم ظهور الإنترنت واندلاع ثورة المعلومات وانتشار الإعلام الخاص، فهذه كلها وسائط حديثة مازالت فى غير متناول شرائح عريضة فى المجتمع العربى، لا يجب التهوين إذن من تأثير الوعى الغائب أو المغيب على المسألة الديمقراطية فى بلادنا، وفى القلب منها آلية صناديق الانتخاب، صحيح أنه لا يمكن اعتبار الأمية والجهل حتمية اجتماعية تجرد الفرد كلية من قدرته على الاختيار.. وصحيح أيضاً أنه من الخطورة ما يروجه البعض من أن هناك شعوباً جديرة بالديمقراطية لما بلغته من وعى وتعليم، وأن هناك شعوباً أخرى غير جديرة بذلك.. لكن الصحيح أيضاً أن تفاقم الفقر وغياب الوعى يجعلان من الممكن اختطاف الديمقراطية أو على الأقل توجيه دفتها سواء من جانب قوى المال أو من القوى العارفة بفنون استثارة المشاعر الدينية لدى البسطاء. على أن الوعى اللازم لتهيئة التربة الديمقراطية لا يجب اختزاله فقط فى تعلم القراءة والكتابة واكتساب قدر من التعليم أو الثقافة، الوعى يعنى أيضاً أن نتخفف من أثقال الانتماءات الطائفية والعرقية والقبلية لصالح الانتماء الجامع للوطن، أو بالأقل أن نعيد وضع هذه الانتماءات فى سياقها الروحى أو الشخصى أو الثقافى، لتبقى «المواطنة» هى الصياغة السياسية والقانونية الوحيدة التى نحتكم إليها فى علاقتنا بالدولة من ناحية وببعضنا البعض من ناحية أخرى، وبدون ذلك سيبقى التنوع الدينى والعرقى والثقافى واللغوى فى بلاد العرب خصماً من رصيد المواطنة بدلاً من أن يكون إضافة له. هكذا تبدو معضلة الديمقراطية فى جوهرها معضلتين، الأولى سياسية والثانية ثقافية، المعضلة السياسية هى السؤال الأثير الذى يتردد فى الندوات ومراكز الأبحاث وكتابات المحللين وأروقة الدبلوماسيين وحتى أجهزة الاستخبارات، حسناً من السهل نظرياً البحث عن إجابة لسؤال التحول السياسى فى بلاد العرب. وهو تحول لا يصعب التنبؤ بسيناريوهاته، إما إرادة سياسية تقود فى لحظة شجاعة تاريخية حركة التحول على غرار ما حدث فى أمريكا اللاتينية بل وبعض بلدان أفريقيا الغربية.. لكن لحظات الشجاعة التاريخية تبدو كومضات البرق لا نعرف متى تجىء، وإما تغيير تفرضه معادلات القوى الاجتماعية والسياسية، لكن هذا السيناريو الثانى يصطدم بواقع ضعف البنى الحزبية والسياسية فى المجتمع العربى مما يجعله يحتاج على الأقل لعشرين أو ثلاثين عاماً، وإما تدخل أجنبى يسهم أو يسرع فى فرض التغيير، لكن هذا السيناريو الثالث لا يبدو متصوراً إلا إذا استشعرت القوى الخارجية فى الوضع القائم خطراً يهدد مصالحها الحيوية من ناحية، وأن ترى فى مآلات التحول ما يحمى هذه المصالح من ناحية ثانية، وإما فى سيناريو رابع إثر فوضى اجتماعية يقف وراءها التيار الدينى مثلاً، فيقفز أمامها تيار آخر يقود مرحلة التحول، أو العكس أن يقف وراء الفوضى تيار ما فيقفز أمامها التيار الدينى ليقطف الثمار، وإما أخيراً بفعل عامل لا يتوقعه أحد يفاجئنا به ما يسمى دهاء التاريخ! قد يبدو الانشغال بسيناريوهات هذا التحول السياسى هو الأكثر إثارة وتشويقاً، وربما يراهن البعض عليه فى عملية التحول الديمقراطى، لكن هذا الانشغال لا يجب أن ينسينا أن ثمة معضلة ثقافية واجتماعية كبرى فى المسألة الديمقراطية، وهى المعضلة الخاصة بكيفية تهيئة التربة الديمقراطية فى بلاد العرب، الأمطار وحدها لا تنبت زرعاً ما لم يكن هناك حرث للأرض وغرس للبذور، إنها معركة نفس طويل يجب أن تبدأ من نظم التربية والتعليم والإعلام والثقافة والخطاب الدينى، ثمة قيم ثقافية واجتماعية ينبغى تحديثها لأنها ببساطة غير ديمقراطية، وثمة مؤسسات ثقافية وتربوية واجتماعية يجب تطوير دورها لأنها ببساطة أيضاً غير ديمقراطية، إن لم تصدقوا فانظروا إلى المظاهرات التى لم يتجاوز عدد المشاركين فيها عشرات الأشخاص. أيتها النخبة المناضلة الحالمة النبيلة.. اهبطوا إلى الشارع.. ستكتشفوا أن المجتمع الديمقراطى هو الذى يصنع دولة ديمقراطية، يا له من طريق طويل. ■ بالتزامن مع جريدة «الحياة اللندنية»