كم هى قاسية التفاصيل الصغيرة فى حياتنا اليومية، خاصة إذا كانت عصية على الفهم وعديمة المنطق، وكم مؤلم ما يتكبده المرء فى هذا الوطن العزيز من جهد عندما يحاول أن يعرف ويتقصى، لا أحد من المسؤولين أو كهنة البيروقراطية المصرية يدرك الآثار التى تترتب على أن يظل المواطن تجاوزا منشغلا بمحاولة فهم طلاسم الإدارة المصرية، ولا أحد يعى أن مجموع التفاصيل الصغيرة فى حياة كل واحد منا بمقدار ما تكون يسيرة بمقدار ما ينجز المواطن ويتقدم المجتمع، وبمقدار ما تكون عسيرة بمقدار ما يصبح الفرد ناقما على «العيش والعيشة واللى عايشينها» (بحسب آدم فى مسرحية الهمجى)، وينفصل عن واقعه منكفئا لعجزه عن مواصلة «حل الفوازير»، خاصة أن كل محاولة للفهم تقابل «بالتسخيف» الشديد، وبالرد الحديدى الصارم «هو كده واللى مش عاجبه يشرب من البحر». فى هذا السياق أقدم لكم قصة قصيرة وبسيطة ولكنها دالة جدا. (2) فى الأسبوع الماضى كنت فى زيارة عائلية، وكالعادة تناول الجالسون الكثير من الموضوعات والقضايا مثار الاهتمام فى واقعنا المصرى السعيد، وبالطبع كان موضوع «القمامة» الموضوع الأبرز. وفجأة تذكرت سيدة المنزل الفاضلة التى تستضيفنا شيئا، وقالت أريد أن أريك أوراقا وقل لى رأيك، ثم قامت وغابت لبعض الوقت وعادت وهى تحمل «إيصال كهرباء» قدمته لى، فأخذت أطالعه، بداية نظرت إلى القيمة الإجمالية المذكورة فى الإيصال أو المطلوب سداده فوجدته «خمسة جنيه وعشرة قرشا» (أكتب القيمة كما جاءت فى الإيصال)، فقلت «يا هناكم ده إحنا فاتورتنا الشهر الماضى...» قاطعتنى السيدة فورا ولم تدعنى أكمل وقالت: أرجوك تفحص الفاتورة جيدا. وجدت أن المطلوب سداده عن استهلاك الكهرباء هو عشرة قروش والمطلوب كرسوم نظافة «خمسة جنيه»، ثم وجدت الفاتورة باسم ابنها الذى يمتلك شقة أخرى فى نفس البناية وهى مغلقة منذ العام 2000 بسبب الهجرة وليس عن شقتها التى تعيش فيها، والإيصال نفسه صادر عن شهر ديسمبر 2006. وما إن رددت المعلومات المذكورة فى الإيصال بصوت مسموع، حتى أعطتنى السيدة الفاضلة إيصالا آخر قرأته فوجدته صادراً عن شهر أغسطس 2009، أما عن المبلغ المستحق فوجدته «خمسة جنيه وخمسة قرشا» (كما هو مذكور فى الإيصال ) قيمة استهلاك الكهرباء خمسة قروش والباقى أى الخمسة جنيهات قيمة رسوم النظافة. (3) دار حديث جماعى حول الإيصالين، وكشفت السيدة عن بعض الأمور، فهى تحاول منذ سنوات من خلال ذهابها إلى إدارة الكهرباء أن تفهم من المسؤولين لماذا عليها أن تدفع النظافة والشقة مغلقة بالأساس لهجرة ابنها منذ سنوات، وإذا كان هناك أى شك فى هذا الأمر فإن استهلاك الكهرباء نفسه يؤكده، حيث لا يوجد أحد كى يستهلك الكهرباء ومن ثم لا توجد أى حياة ينتج عنها قمامة، وبالتالى سداد خمسة جنيهات شهريا بشكل منتظم على مدى سنوات. بيد أنه لا حياة لمن تنادى، بل إنه فى مرة من مرات محاولات السيدة الفاضلة لوقف موضوع دفع رسوم النظافة، «استكتر» الموظف أن يبادلها الحوار فقام بالإشارة إلى برواز فى صدر الإيصال يقول إن «رسوم النظافة طبقا للقانون 10 لسنة 2005». قد يبدو الأمر بسيطا، ولكنه يثير الكثير من التساؤلات عن المنطق الذى تدار به أمورنا، عن التشريع ومنطقه، وما معنى القانون إذا افتقد أن يُعترف به واقعيا، فما منطق ربط رسوم النظافة باستهلاك الكهرباء وماذا عن الحالة التى قدمناها حيث لا يوجد استهلاك للكهرباء، وما مصير الرسوم التى تم دفعها لشقة مغلقة، وما قول المشرع إذا كانت القمامة لا تجمع من الأصل وتترك لجامع القمامة التقليدى، تعددت القصص فى اللقاء العائلى وتصاعد الغضب والضيق، وبدا لى أن المزاج العام للحاضرين يميل إلى عدم التفريط فى الحقوق، وأن الاستمرار فى دفع الفاتورة من دون فحصها أمر بات غير مقبول. وتذكرت ما قاله الشاعر والمسرحى الألمانى بريخت عندما قال: لا تخجل من السؤال، أيها الصديق! افحص الأمر بنفسك! افحص قائمة الحساب لأنه عليك أن تدفع قيمتها ضع إصبعك على كل رقم اسأل من أين جاء هذا؟ يجب عليك أن تتولى القيادة والحال السائد لن يبقى على ما هو عليه.